د. محمد نصر الدين علام ٨/ ٥/ ٢٠١٢
السدود الإثيوبية لها خلفية تاريخية بدأت بعد اتفاق
مصر والسودان على إنشاء السد العالى، حيث أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية بعثة من
مكتب استصلاح الأراضى الأمريكى فى ذلك الوقت لدراسة إنشاء سدود ومشاريع تنمية على النيل
الأزرق بإثيوبيا، رداً على قيام مصر والسودان بمحاولة تحقيق أمنهما المائى، وانتهت
هذه البعثة من إعداد خطة متكاملة لتطوير حوض النيل الأزرق تم نشرها عام ١٩٦٤، وتتضمن
عدد ٣٣ منشأ مائياً على النيل الأزرق وروافده ومشروعات زراعات مروية فى مساحة نصف مليون
هكتار تبلغ احتياجاتها المائية حوالى ٥ مليارات متر مكعب سنوياً. وتضمنت المنشآت المائية
المقترحة عدد ٤ سدود كبرى على النيل الأزرق، وهى سد كارادوبى، وسد بيكوأبو، وسد مندايا،
وسد بوردر (الحدود).
كانت إثيوبيا تعكف سراً على تحديث وتطوير هذه الدراسات
انتظاراً للوقت المناسب للتنفيذ، ففى عام ١٩٩٨ انتهت إثيوبيا من إعادة وتحديث دراسة
تلك المشروعات من خلال مكتب استشارى فرنسى «بيكوم»، ثم تلا ذلك عدة دراسات لمكاتب استشارية
هولندية انتهت إلى مضاعفة سعة السدود الأربعة الكبرى المقترحة على النيل الأزرق لتصل
إلى حوالى ١٥٠ مليار متر مكعب ـ أى ما يقرب من ثلاثة أمثال التصرف السنوى للنيل الأزرق.
وبعد قيام ثورة يناير المصرية وبعد زيارة الوفد الشعبى
المصرى إثيوبيا بأسابيع قليلة، قامت القيادة الإثيوبية فى حفل إعلامى دولى كبير بوضع
حجر الأساس لأحد السدود الأربعة الكبرى، وهو سد «الحدود» على مسافة ٤٠ كيلومتراً من
الحدود السودانية. وتم تغيير اسم السد من الحدود إلى سد «إكس» ثم تغير مرة ثانية إلى
سد «الألفية» ثم أخيراً إلى سد «النهضة» ولكن بأبعاد تبلغ خمسة أضعاف أبعاد سد الحدود،
حيث كانت السعة التصميمية لسد الحدود ١٤.٥ مليار متر مكعب، بينما السعة المعلنة لسد
النهضة ٧٣ مليار متر مكعب، وينتج ٥٢٥٠ ميجاوات من الكهرباء.
وتمت تصميمات هذا السد فى سرية تامة دون علم كل من
مصر والسودان بل دون علم مبادرة حوض النيل. لماذا هذه السرية المريبة فى التصميم والإعداد
لهذا السد؟ ولماذا هذا الاستغلال السيئ لظروف مصر الداخلية للإعلان ووضع حجر أساس السد
عقب قيام الثورة المصرية وأثناء انشغالنا بتنظيم أمورنا الداخلية؟ وأين احترام الاتفاقيات
القديمة القائمة وقواعد القانون الدولى بشأن الإخطار المسبق عن المشروعات ذات التأثير
المحتمل على الدول المتشاطئة فى الأنهار الدولية، خاصة مشاريع السدود؟ وهل هذه سياسة
إثيوبية جديدة لفرض الأمر الواقع على دولة بهامة وقامة مصر على الرغم من ظروفها الداخلية
الصعبة المؤقتة؟
السدود الإثيوبية تمثل استراتيجية إثيوبية قومية قديمة
للتحكم فى النيل الأزرق، وكلما اهتزت العلاقات بين البلدين كانت إثيوبيا على مدى العصور
تلوح بها لمصر مهددة بأنها تستطيع تحويل مجرى النهر وحرمان مصر من المياه. وحسبما جاء
فى دراسة بريطانية حديثة للدكتور هارى فيرهوفن نشرتها منظمة شاثام هاوس فى يونيو
٢٠١١ فإن هذه الاستراتيجية القديمة تم تطويرها بهدف إحداث نقلة اقتصادية لدولة إثيوبيا
من موقعها الحالى ضمن أشد دول العالم فقراً إلى مصاف الدول متوسطة الدخل بحلول فترة
٢٠٢٠ - ٢٠٢٥، وقد شارك العديد من الدول الأوروبية وبعض المنظمات الدولية فى تحديث وتهذيب
هذه الاستراتيجية ووضعها فى إطار اقتصادى ذات طابع استثمارى جذاب.
أصبحت الاستراتيجية تشمل إقامة العديد من السدود الضخمة
على النيل الأزرق والأنهار الأخرى الواقعة فى إثيوبيا للتوسعات الزراعية المروية ولإنتاج
الطاقة الكهرومائية النظيفة للاستهلاك المحلى وللتصدير إلى دول الجوار ـ جيبوتى والصومال
شرقاً وكينيا وأوغندا جنوباً وشمال وجنوب السودان غرباً ومصر شمالاً ـ بل وهناك تصورات
بتصدير هذه الطاقة إلى أوروبا عبر البوابة المصرية. وتقدر مبدئياً كميات الطاقة الكهرومائية
التى يمكن توليدها على الأنهار المختلفة فى إثيوبيا بحوالى ٤٥٠٠٠ ميجاوات منها
٢٠٠٠٠ ميجاوات من النيل الأزرق وروافده.
وكمثال على اقتصاديات هذه الاستراتيجية تشير دراسة
أمريكية قام بها الدكتور مارك جيولاند من جامعة ديوك الأمريكية فى نوفمبر ٢٠١٠ إلى
أن صافى القيمة الحاضرة للعائد الاقتصادى المقدر لأحد هذه السدود وهو سد مندايا الذى
تبلغ سعته حوالى ٥٠ مليار متر مكعب وينتج ٢٠٠٠ ميجاوات من الكهرباء يصل إلى ٧ مليارات
دولار من خلال إنتاج الكهرباء وتصديرها إلى دول الجوار، وسوف تبلغ أرباح سد النهضة
أضعاف هذا المبلغ، نظراً لأنه يفوق سد مندايا كثيراً فى السعة وفى الطاقة الكهربية
المنتجة. وجدير بالذكر أنه من خلال مبادرة حوض النيل كان قد تم الاتفاق بين مصر والسودان
وإثيوبيا من خلال مشروع تجارة الطاقة بالنيل الشرقى على أن تحصل السودان على ١٢٠٠ ميجاوات
من الطاقة المولدة من السدود الإثيوبية ومصر على ٢٠٠٠ ميجاوات والباقى للاستهلاك المحلى
الإثيوبى ومن العجيب أنه كان قد تم الاتفاق على استيراد الكهرباء من إثيوبيا دون دراسة
الآثار السلبية المحتملة لهذه السدود على مصر.
ولا تنحصر الفوائد المباشرة لإثيوبيا من السدود فقط
فى التوسعات الزراعية المروية لزيادة إنتاج الغذاء، وفى إنتاج الطاقة الكهربائية للاستهلاك
المحلى وللتنمية الصناعية وللتصدير لتوفير مصدر مالى مستديم لزيادة الدخل القومى، بل
إن برنامج السدود الإثيوبية له أهداف عديدة أخرى، منها إعطاء دور الزعامة لإثيوبيا
فى منطقة القرن الأفريقى وحوض النيل، ولتعزيز انفصال جنوب السودان، وربط اقتصاده بدول
أخرى غير الدولة الأم السودان، واحتكار الطاقة الكهربية فى المنطقة خاصة السودان شمالاً
وجنوباً، ويساعد إثيوبيا فى توفير التمويل والخبرات الفنية لتنفيذ هذا المخطط العديد
من القوى الدولية والجهات المانحة، منها البنك الدولى والصين وإيطاليا والنرويج.
وهناك بعض الفوائد التى قد تعود على دولتى المصب من
السدود الإثيوبية تشمل تقليل المواد الرسوبية الواصلة إلى السودان ومصر، والمستفيد
الأول من ذلك هو الشقيقة السودان، حيث تمثل المواد الرسوبية مشكلة ملحة لها تقلل من
أعمار سدودها وتتطلب تكاليف عالية لصيانتها وتشغيلها، أما قيمة هذه الفائدة لمصر فهى
محدودة نسبياً، نظراً لأن معدل الأطماء فى بحيرة ناصر أقل من المعدلات التصميمية للسد
العالى، ولا يمثل مشكلة حقيقية لمصر. وثانية هذه الفوائد توليد وتصدير الكهرباء لكل
من مصر والسودان.
وأيضاً قد تكون هذه الفائدة مهمة للسودان خاصة بعد
انفصال الجنوب، ومعه كميات كبيرة من احتياطى بترول البلاد، المصدر الرئيسى للطاقة.
ولكن بالنسبة لمصر فإن تكاليف هذه الكهرباء مقاربة لتكاليف الكهرباء المولدة من محطات
الغاز التى يتم إنشاؤها فى مصر واعتماداً على مصادر الطاقة المحلية. ونشير هنا إلى
أهمية الأخذ فى الاعتبار مقومات الأمن القومى فى حالة اعتماد مصر على استيراد الطاقة
من إثيوبيا والمنقولة عبر السودان، فى ظل عدم الاستقرار فى منطقة القرن الأفريقية.
وفائدة ثالثة لهذه السدود هى تنظيم تصرفات النيل الأزرق على مدار العام بدلاً من تدفقه
الحالى فقط خلال موسم الفيضان، وذلك يفيد أيضاً الشقيقة السودان فى أراضيها الزراعية
بالمنطقة الشرقية ويتيح لها الزراعات الدائمة طوال العام بدلاً من الزراعات الموسمية
الحالية. ولكن هذه الميزة النسبية لا تفيد مصر على الإطلاق، نظراً لوجود السد العالى
الذى ينظم تصرفات النهر فى مصر على مدار العام.
بل إن هذه الفائدة قد تضر مصر مائياً إذا أدت إلى
زيادة مزارعى السودان فى هذه المنطقة من استخداماتهم المائية. وآخر الفوائد التى يتحدث
عنها الجانب الإثيوبى أن نقل التخزين من بحيرة السد العالى فى مصر إلى الهضبة الإثيوبية
يوفر ٥ مليارات متر مكعب من فواقد البخر من بحيرة ناصر سنوياً. وهذه المقولة فيها الكثير
من المبالغة، حيث أفادت الدراسات المصرية فى هذا الشأن بأن أقصى توفير فى هذه الفواقد
إذا ما تم التخزين فى الهضبة الإثيوبية بدلاً من بحيرة ناصر يقل عن ٢ مليار متر مكعب
سنوياً، ومن المتوقع فى حالة بناء السدود الإثيوبية أن تصبح كميات فواقد المياه من
بحيرات السدود الإثيوبية ومن بحيرة ناصر معاً أكبر من كميات الفواقد الحالية من بحيرة
ناصر. يتضح مما سبق أن فوائد هذه السدود ليست حيوية لمصر، ولكن هناك، يقيناً، بعض الفوائد
المباشرة التى سوف تعود على الشقيقة السودان.
هناك تساؤلات عديدة فى الشارع المصرى حول السدود الإثيوبية
وخلط شديد بين ما يسمعونه من السياسيين فى إثيوبيا وفى مصر وفى السودان وبين ما يسمعونه
من الفنيين ومن آخرين من المهتمين بهذه القضية التى تمس مباشرة الأمن القومى المصرى.
فنجد فى إثيوبيا المسؤولين يؤكدون أن مخطط السدود يشمل السدود الأربعة الكبرى على النيل
الأزرق وليس سد النهضة فقط، ويؤكدون أيضاً أن سد النهضة ليس له آثار سلبية على مصر
أو السودان، وأن فوائده ستعم البلاد الثلاثة.
وفى السودان أعلنت القيادة السياسية بأن سد النهضة
مفيد للسودان وجاء على لسان بعض المسؤولين هناك تصريحات فيها الكثير من المبالغة بأن
السد سيزيد من إيراد النهر، مما يوضح التوجه السودانى فى هذا الشأن. وفى مصر سمعنا
من الحكومة السابقة وكذلك الحالية أن سد النهضة قد يمثل محوراً للتنمية بين الدول الثلاث،
وأن الدول الثلاث تدرس إيجابيات وسلبيات السد للتعاون معاً فى تعظيم إيجابياته وتقليل
سلبياته
١٠/ ٥/ ٢٠١٢
٢- السدود الإثيوبية
وحصة مصر المائية
الاتفاقية الدولية بين بريطانيا العظمى وإثيوبيا
عام ١٩٠٢ الخاصة بترسيم الحدود الإثيوبية يتعهد فيها الإمبراطور الإثيوبى مينيليك الثانى
بألا يسمح بإنشاء أى عمل على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنه التأثير
سلباً على تدفق النهر إلا بالاتفاق مع حكومة السودان المصرى البريطانى، واتفاقية الأمم
المتحدة عام ١٩٩٧ للاستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية خصصت باباً كاملاً
للإخطار المسبق عن المشاريع المائية على الأنهار الدولية المشتركة يتكون من ٩ مواد
تفصيلية.. وتنص هذه المواد على أنه لا يجوز البدء فى تنفيذ مشروع على نهر دولى قبل
إخطار الدول المحتمل تضررها بجميع بيانات المشروع الفنية ونتائج دراسة الآثار البيئية
حتى يتسنى لهذه الدول تقييم الآثار المحتملة لهذا المشروع، وتنص اتفاقية الأمم المتحدة
على منح فترة ٦ شهور للدول المحتمل تضررها للدراسة وتقييم آثار المشروع، ويحق لهذه
الدول أيضاً فى حالة صعوبة التقييم مد هذه الفترة مدة ٦ شهور أخرى للدراسة والتحليل،
وتنص اتفاقية الأمم المتحدة على أنه إذا أوضحت دراسات التقييم أن المشروع سيؤدى إلى
آثار سلبية بالغة فإنه على الدول المتضررة والدولة صاحبة المشروع التشاور، وعند الضرورة
التفاوض للوصول إلى حل منصف لهذه المشكلة، وأثناء هذه المشاورات والمفاوضات وبناءً
على طلب الدول المتضررة تقوم الدولة صاحبة المشروع بتأجيل تنفيذ المشروع لفترة ٦ شهور
أو حسب ما يتفق عليه بين الدول بعضها البعض. وفى حالة عدم الاتفاق بين الدول حول المشروع
يمكن اللجوء إلى التحكيم الدولى أو غيره من الوسائل السلمية لحل مثل هذا النزاع، هذه
هى التعهدات الإثيوبية فى اتفاقية ١٩٠٢ بعدم البدء فى أى مشروع من شأنه التأثير سلباً
على تدفق النهر قبل الرجوع إلى دولتى المصب، وهذه هى الإجراءات التى تنص عليها اتفاقية
الأمم المتحدة لعام ١٩٩٧ قبل الشروع فى تنفيذ مشروعات مؤثرة على الأنهار الدولية المشتركة.
وكلنا على علم بما حدث ويحدث حالياً من قبل إثيوبيا
فى البدء والاستمرار فى إنشاء سد النهضة دون إخطار مصر والسودان، ودون تقديم أى بيانات
أو دراسات عن السد حتى تاريخه، ونعلم أيضاً أنه بعد احتجاج كل من مصر والسودان على
السد تم تشكيل لجنة ثلاثية من الدول الثلاث لدراسة آثار المشروع، ولكن هذه الدراسة
لم تبدأ بعد بينما جار الاستمرار فى إنشاء السد الذى يرتفع بناؤه يوماً بعد يوم، وبالرغم
من كل هذه المخالفات لأسس وأعراف القانون الدولى والاتفاقيات القديمة القائمة مازلنا
نسمع من المسؤولين عن آفاق التعاون الإيجابية والتفاؤل بحل هذا الخلاف، إن السدود الإثيوبية
التخزينية ستكون لها آثارها السلبية البالغة على تدفق النهر حيث إن العنصرين الرئيسيين
للتأثيرات السلبية للسدود يتمثلان فى مقدار سعتها التخزينية وفى مقدار استهلاك مخزونها
المائى فى الزراعات المروية. فكلما زادت السعة التخزينية للسدود وزادت المساحة الزراعية
المروية زادت الآثار السلبية لهذه السدود على التدفق الطبيعى للنهر. السعة التخزينية
للسدود الإثيوبية ستكون خصماً من مخزون المياه أمام السد العالى الذى يتم استخدامه
لسد العجز المائى لإيراد النهر فى السنوات التى يقل فيها الإيراد عن قيمته المتوسطة
«سنوات الفيضان المنخفضة»، وبالتالى ستظهر بعد إنشاء سد النهضة ظاهرة الجفاف والعجز
المائى فى سنوات الفيضان المنخفضة وهو أشبه بما كان الوضع عليه قبل بناء السد العالى،
أما المياه التى سوف تستخدم من مخزون هذه السدود للرى فستمثل خصماً مباشراً من حصتى
مصر والسودان المائيتين السنويتين.
ولإعطاء خلفية أكبر للقارئ عن بداية الدراسات الحديثة
للسدود الإثيوبية دعنا نعد إلى الوراء عدة سنوات إلى فبراير ٢٠٠٥ حيث نجحت إثيوبيا
فى إقحام برنامجها القومى للسدود فى مبادرة حوض النيل من خلال الاتفاق بين وزراء المياه
فى إثيوبيا والسودان ومصر فى ذلك الوقت على دراسة السدود الإثيوبية لتحديد أنسب المشروعات
التى يمكن تنفيذها من خلال برنامج النيل الشرقى للمبادرة، والذى يضم كلا من إثيوبيا
ومصر والسودان، وتمت دراسة أولية لهذه السدود وهى سد كارادوبى وسد بيكو أبو وسد مندايا
وسد بوردر «الحدود» من خلال فريق من استشاريين دوليين وبتمويل من البنك الدولى، ثم
تطورت هذه الدراسة إلى دراسة تعريفية وجدوى لهذه السدود بدأت فى يناير ٢٠١٠ لمدة
١٨ شهراً بواسطة مجموعة استشارية كندية وبتمويل من مبادرة حوض النيل، وقامت المجموعة
الاستشارية الكندية بإعداد التقرير المبدئى لمخطط مواقع وسعات السدود الإثيوبية على
النيل الأزرق وتلته بعد ذلك دراسات ما قبل الجدوى لعدد من هذه السدود. وكنت قد قمت
بتكليف فريق عمل من مهندسى الوزارة وأساتذة جامعة القاهرة فى النصف الأول من عام
٢٠١٠ لتقييم هذه الدراسات ولدراسة السدود الإثيوبية وآثارها على مصر. وجدير بالذكر
أنه فى ذلك الوقت لم يكن هناك أى ذكر عن سد النهضة الضخم الذى كان مسماه فى ذلك الوقت
«سد الحدود» وبسعة لا تزيد على ٢٠٪ من سعة سد النهضة.
ومن النتائج الممكن استخلاصها من الدراسة المصرية
أن هذه السدود سوف تتسبب فى حدوث عجز مائى فى إيراد النهر بمتوسط سنوى مقداره ٩ مليارات
متر مكعب سنوياً وسوف تقل الكهرباء المولدة من السد العالى وخزان أسوان بحوالى
٢٥٪. وشملت الدراسة المصرية أيضاً إمكانية إنشاء سد واحد فقط من السدود الإثيوبية الأربعة
وآثار ذلك على حصة مصر المائية، فقد تمت دراسة وتحليل إمكانية وآثار بناء سد بيكو أبو
فقط الذى يبلغ ارتفاعه ٢٨٥ متراً وسعته حوالى ٤٠ مليار متر مكعب ويولد طاقة كهربية
فى حدود ٢١٠٠ ميجاوات، وقد وجدت الدراسة أنه فى حالة الاعتماد على هذا السد فى التوسع
فى الزراعات المروية بنفس المساحة المقدرة على السدود الأربعة معاً والتى تبلغ حوالى
نصف مليون هكتار فإن السد سوف يتسبب فى حدوث عجز مائى فى إيراد النهر بمتوسط سنوى مقداره
٨ مليارات متر مكعب سنوياً، وسوف تقل الكهرباء المولدة من السد العالى وخزان أسوان
بحوالى ٢٠٪، وهذا السيناريو الأخير مفيد فى تقدير مدى تأثير سد النهضة على مصر إذا
تم إنشاؤه وحده خلال الفترة المقبلة، مع الأخذ فى الاعتبار أن الأبعاد المعلنة لسد
النهضة بسعة حوالى ٧٣ مليار متر مكعب تفوق كثيراً سعة سد بيكو أبو.
ونتائج دراسة فريق العمل المصرى متقاربة مع نتائج
دراسة الدكتور مارك جيولاند من جامعة ديوك الأمريكية التى تم نشرها فى شهر نوفمبر
٢٠١٠ فى دورية «بحوث الموارد المائية» التى يصدرها الاتحاد الجيوفيزيقى الأمريكى وهى
أكثر الدوريات العالمية شهرة فى مجال الموارد المائية، وكانت الدراسة عن أثر إنشاء
سد إثيوبى واحد وهو سد مندايا الذى تبلغ سعته ٥٠ مليار متر مكعب، بالإضافة إلى آثار
التغيرات المناخية على تصرفات النيل الأزرق، وقد انتهت الدراسة إلى أن تأثير السد يتمثل
فى انخفاض إنتاج الكهرباء من السد العالى وخزان أسوان بمقدار ٢٠٪ تزداد إلى الضعف مع
التغيرات المناخية، وأنه سيتسبب فى عجز مائى فى إيراد النهر بمتوسط سنوى مقداره ٩ مليارات
متر مكعب فى المتوسط، ويزداد هذا العجز المائى إلى ١٦ مليار متر مكعب سنوياً مع التغيرات
المناخية.
ومن الآثار السلبية للسدود الإثيوبية احتمال انهيارها
أو انهيار واحد منها وما لذلك من آثار تدميرية على دولتى المصب، وقد قام فريق العمل
المصرى من الوزارة والجامعة بدراسة تأثير انهيار سد بوردر «الحدود»، أصغر السدود الإثيوبية
بسعة ١٤.٥ مليار متر مكعب وبارتفاع يبلغ ٩٠ متراً، ووجد فريق العمل أن انهيار سد الحدود
سيؤدى إلى تدمير سدى الروصيرص وسنار على النيل الأزرق فى السودان وعرق الخرطوم فى موجة
فيضان يصل ارتفاعها إلى ٩ أمتار أى بارتفاع مبنى مكون من ٣ أدوار، ويمتد أثر هذه الموجة
التدميرية إلى الشمال فى اتجاه مصر، وبطبيعة الحال سوف تتضاعف هذه الآثار التدميرية
فى حالة انهيار أحد السدود الأكبر حجماً مثل سد مندايا أو سد بيكو أبو أو النهضة وسوف
تكون مؤثرة تماماً على مصر وليس الخرطوم وحدها.
وعلى ضوء نتائج الدراسة المصرية رفضت مصر فى نهاية
٢٠١٠ الدراسات الكندية للسدود الإثيوبية التى تمت تحت إشراف مكتب النيل الشرقى لمبادرة
حوض النيل لعدم أخذ المكتب الاستشارى الكندى فى الاعتبار الآثار السلبية البالغة على
دولتى المصب، وكان قد تم إرسال ملاحظات مصر على الآثار السلبية لهذه السدود إلى سكرتارية
مبادرة حوض النيل، وإلى المكتب الفنى لحوض النيل الشرقى، وإلى البنك الدولى والسوق
الأوروبية، وإلى الاستشارى الكندى لمبادرة حوض النيل، ثم فاجأتنا إثيوبيا بعد الثورة
المصرية بوضع حجر أساس سد النهضة الذى تم التخطيط له وتصميمه فى سرية تامة وبأبعاد
عملاقة وبتكلفة تقترب من ٥ مليارات دولار «ثلاثين مليار جنيه مصرى»، وبالرغم من توفر
الدراسات المصرية والأمريكية عن السدود الإثيوبية فمازالت هناك تصريحات سياسية مصرية
تقول إنه لا توجد لدينا أى بيانات حتى الآن عن سد النهضة وإنه دون الحصول على هذه البيانات
وإجراء دراسات تفصيلية لا نستطيع أن نقول إذا كان السد سيلحق الضرر بمصر أم لا، وفى
الوقت نفسه إثيوبيا مستمرة فى بناء السد. إننى أتساءل: هل الدراسات المصرية لآثار سد
بيكو أبو الذى لا تزيد سعته على ٦٠٪ من سد النهضة غير كافية لأن نعلم أن لسد النهضة
أضراراً بالغة لمصر؟ وهل نتائج الدراسة الأمريكية لآثار سد مندايا الذى لا تزيد سعته
على ٧٠٪ من سد النهضة غير كافية لأن يكون لنا موقف واضح ولو مبدئى من سد النهضة؟ من
العجيب أن إثيوبيا تجزم بأن السد ليست له أضرار على مصر ونحن ومع وفرة هذه البيانات
والدراسات لا نقوم حتى بالتشكيك الرسمى فى التصريحات الإثيوبية!!
وكما نعلم جميعاً أنه قد تم تشكيل لجنة ثلاثية من
مصر والسودان وإثيوبيا على المستوى الوزارى لدراسة آثار السد على دولتى المصب مع استمرار
إثيوبيا فى بناء السد. والسؤال المهم فى هذا المقام: ماذا تعنى وبماذا تهم دراسة اللجنة
الثلاثية لآثار المشروع على دولتى المصب فى ظل عدم اعتراف إثيوبيا بحصتى مصر والسودان
المائيتين؟ إن عدم اعتراف إثيوبيا بالحصص ولا الاستخدامات المائية لدولتى المصب يعنى
أنه لا توجد مرجعية إثيوبية لقاعدة عدم الإضرار، فإذا انتهت الدراسات مثلاً إلى أن
سد النهضة سيؤدى إلى نقص تدفق النهر بمقدار ٩ مليارات متر مكعب سنوياً فهذا قد لا يعنى
من وجهة النظر الإثيوبية إضراراً بمصر والسودان لأنها لا تعترف بحصتهما المائية بل
قد تنظر إليها كحصة مائية عادلة لإثيوبيا من تدفق النهر.
والسؤال الآخر المهم فى هذا المقام أنه فى حالة
اكتمال بناء السد وأصبح العجز فى إيراد النهر حقيقة واقعة فمن يتحمل هذا العجز المائى
السنوى الذى يزيد على ١٠٪ من إيراد النهر؟ هل مصر وحدها أم السودان أم كلا البلدين؟
الإجابة عن هذا التساؤل متوفرة فى اتفاقية ١٩٥٩ بين مصر والسودان التى تنص فى بابها
الخامس المادة الثانية: «نظرا إلى أن البلاد التى تقع على النيل غير الجمهوريتين المتعاقدتين
تطالب بنصيب فى مياه النيل، فقد اتفقت الجمهوريتان على أن تبحثا سوياً مطالب هذه البلاد
وتتفقا على رأى موحد بشأنها، وإذا أسفر البحث عن إمكان قبول أى كمية من إيراد النهر
تخصص لبلد منها أو لآخر فإن هذا القدر محسوباً عند أسوان يخصم مناصفة بينهما».
فإذا كان العجز المائى نتيجة سد النهضة الإثيوبى
يبلغ ٩ مليارات متر مكعب سنوياً، فإنه حسب اتفاقية ١٩٥٩ وفى حالة موافقة مصر والسودان
على هذا السد فإن كل دولة سيتم تخفيض حصتها بمقدار ٤.٥ مليار متر مكعب لتصبح ٥١ مليار
متر مكعب لمصر و١٤ مليار متر مكعب للسودان. هل تستطيع السودان التعايش مع هذا العجز
وهى الآن ومنذ سنوات تطرح ملايين من الأفدنة للاستثمار الدولى فى الزراعات المروية
ومستمرة فى بناء السدود للزراعة وتوليد الطاقة؟ وهو تستطيع مصر التعايش مع هذا العجز
الذى يبلغ نصيب الفرد فيه من المياه أقل من ٧٠٠ متر مكعب فى السنة، والفجوة الغذائية
تزيد على ٦ مليارات دولار سنوياً ومشاكل التلوث تعوق التنمية بها؟ هل تستطيع مصر التضحية
بحوالى ٢٠٪ من إنتاج كهرباء السد العالى وخزان أسوان؟ هل مصر التى تعيش على أمل زيادة
حصتها المائية من مشاريع استقطاب الفاقد المائية فى النهر للإيفاء بالاحتياجات المائية
المستقبلية تستطيع أن تتعايش مع هذا الشح المائى ونقص ما يقرب من ١٠٪ من حصتها المائية؟
هذا باختصار لب قضية السدود الإثيوبية فكيف نتعامل معها وماذا أعددنا لها كدولة مصرية
وكل يوم يمر يزداد معه ارتفاع سد النهضة ليصبح حقيقة واقعة!! وللحديث بقية!!
وذهب بعض المهتمين المصريين وغيرهم إلى أن السد لن
تكون له آثار سلبية إذا ما تم استخدامه لتوليد الطاقة فقط ولم تتم عليه توسعات زراعية،
بل جزم البعض بأن السد لن يتم استخدامه للزراعات المروية على الرغم من إعلان الحكومة
الإثيوبية عن زراعة نصف مليون هكتار على مياهه. وأود أن أختم هذا المقال بأن أوضح أن
الحقائق الفنية والعلمية المؤكدة والبعيدة عن التعبيرات السياسية المطاطة ـ تؤكد أن
هذا السد وبقية السدود الإثيوبية ستكون لها آثار سلبية كبيرة على تدفق نهر النيل وعلى
حصتى مصر والسودان المائية!! وهذه الحقائق الفنية ستكون موضوع المقال المقبل إن شاء
الله !!
No comments:
Post a Comment