June 30, 2012
لو عاش عبد الناصر إلي اليوم لكان في التسعين، وربما لا تعرف الأقدار ـ ولا يعرف التاريخ ـ كلمة لو ، فالأعمار بيد الله، ولكل أجل كتاب، وكل يمضي إلي الأجل المحتوم، وقد قضي الأجل أن يرحل جمال عبد الناصر حسين السيد عثمان ـ وهذا اسمه بالكامل ـ المولود في 16 كانون الثاني (يناير) 1918 عن عمر 52 سنة، وفي اليوم الأسود الذي يحمل في الروزنامة تاريخ 28 ايلول (سبتمبر) 1970، وبعد تسع سنوات بالضبط علي انفصال الوحدة المصرية السورية .وقد تكون هزيمة 1967 عجلت بموت عبد الناصر، فقد ضاعفت أحزانه، وألهبت أعصابه، وزادت أعباءه، وأرهقت جسده المنهك بداء السكري ، والعمل المضني لثمانية عشرة ساعة في اليوم، لكن هزيمة 1967 ـ للمفارقة ـ كانت الفرصة المثلي لتألق تجربة عبد الناصر، وإزدهار إيجابياتها، وتأكيد المقدرة علي النهوض غير المسبوق ولا الملحوق في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.ولعل أبشع الأوهام التي ظلت تتردد إلي الآن، وأبعدها خبلا، هي أن هزيمة 1967 أنهت تجربة جمال عبد الناصر، وحطمت مجدها، وأن عبد الناصر ظل يعيش بالقصور الذاتي إلي ما بعدها بثلاث سنوات، بينما الحقيقة الظاهرة مختلفة بالجملة، وهي أن ما بعد 1967 هي أعظم سنوات عبد الناصر بإطلاق، وأن تجربة عبد الناصر عاشت من بعده إلي ثلاث سنوات، وإلي أن عبرت مصر من الهزيمة الخاطفة إلي النصر المخطوف في حرب (أكتوبر) 1973، ثم كان ما كان من خيانة السياسة لحد السلاح، والانقلاب علي تجربة عبد الناصر، والعودة بمصر من قمة تحدي الغرب إلي قبر الضحية مجددا، والعودة إلي حكم دار المندوب السامي الأمريكي بعد دار المندوب السامي البريطاني الذي طرد عبد الناصر نفوذه، وقطع ذيل الأسد البريطاني مع قص دابر الإمبراطورية الفرنسية في معركة السويس 1956.بعد هزيمة 1967، كانت تجربة التنمية الباهرة تواصل أشواطها، كانت مصر عبد الناصر تحقق معدلات تنمية هي الأعلي في العالم الثالث كله، بين عامي 1956 و1966، كانت التنمية تجري بمتوسط قدرة 6,7% سنويا بأرقام البنك الدولي المعادي لتجربة عبد الناصر، وكانت التنمية قد زادت في النصف الأول من الستينيات إلي معدل سنوي يصل إلي حاجز 10%، وفي العشر سنوات الذهبية، حققت مصر تنمية تعادل ما جري في أربعين سنة قبلها، وفي سنة 1965، كان الناتج القومي الإجمالي لمصر يفوق بمقدار الخمس ناتج كوريا الجنوبية، كان البلدان الناهضان ـ كلاهما علي طريقته ـ قد دخلا تجربة التنمية في الوقت ذاته أواسط الخمسينيات، وإلي ما بعد حرب 1973، كانت مصر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التنمية والتقدم والاختراق التكنولوجي، ورغم أعباء ثلاثة حروب لمصر مع إسرائيل، فقد نجحت مصر عبد الناصر في تكوين قاعدة إنتاجية تصنيعية هائلة، وبجملة ديون عسكرية ومدنية لا تزيد عن ملياري دولار، وكان سعر الدولار وقتها ثلاثين قرشا مصريا لا غير، كانت مقدرة الاقتصاد المصري إلي ثبات فتصاعد رغم هزيمة 1967، ومواريثها الثقيلة، وذهاب غالب موارد البلاد لدعم المجهود الحربي، ظل الاقتصاد ينمو بين عامي 1967 و1969 بمتوسط سنوي قدره 4%، وزاد النمو في بعض السنوات التالية إلي 6% ويزيد سنويا، وكان النمو يجري بين عامي 1969 و1973 بمتوسط سنوي قدره 5,14%، ورغم حرمان الإقتصاد المصري من موارد ريع بالغة الأثر من عوائد قناة السويس وبترول سيناء ومعادنها، كانت التنمية مقتدرة، والتجارة مع الخارج غاية في التوازن، ثلث مع الكتلة الإشتراكية وقتها، وثلث مع الكتلة الغربية، وثلث مع العالم الثالث، وكان التشغيل كاملا لطاقة المصريين.كانت البطالة صفرا، وكانت عوائد العمل تساوي عوائد التملك، وتحقق لمصر أعلي متوسط معدل تنمية متصلة في السنوات بين عامي 1956 و1973، وبمتوسط سنوي قدره 5,6%، وهذه التنمية الحقيقية المتصلة، ولكل هذا الوقت، هي حدث غير مسبوق ولا ملحوق في التاريخ المصري بإطلاق.لماذا نركز علي الإقتصاد؟ ربما لدحض الخرافة التي روجوها، والتي إدعت أن اقتصادنا بلغ الصفر عشية حرب أكتوبر، وأن السلام مع إسرائيل سيجلب التنمية والرخاء بالكوم، فلم تخض مصر حربا بعد 1973، وكان ما كان، ونزلنا من حالق إلي الفالق، ودانت مصر للذين هبروا لا للذين عبروا، وبلغت جملة الأموال المهدرة والمنهوبة ما يفوق الثلاثمائة مليار دولار، كان العامل الحاسم في نجاح التنمية ـ كما يقول مؤلف كتاب الحقيقة والوهم في الواقع المصري د. رشدي سعيد ـ جدية القيادة وطهارتها في زمن عبد الناصر، وجري التحول إلي العكس بالضبط مع الانزلاق لزمن الانحطاط المملوكي العائد مجددا، وكان إنجاز السلاح ينافس إنجاز الاقتصاد في زمن عبد الناصر الأنضج بعد هزيمة 1967، فقد بني عبد الناصر جيشا من الصفر، بني جيش ما بعد 1967 الذي هو جيش مصر الحديثة الثاني، قبلها كان جيشها الأول الموروث من تجربة محمد علي وابنه إبراهيم باشا أوائل القرن التاسع عشر، فالسد العالي ليس وحده هرم عبد الناصر، بل قلاع الصناعة والجيش أيضا، الجيش العصري الذي عبر الهزيمة في حرب 1973، وكان بوسعه الوصول إلي خط المضايق الاستراتيجية الحاكم في سيناء، والتفاوض العسكري علي تحرير سيناء بكاملها، وبغير تكلفة نزع السلاح فنزع سيادة القرار التي أعقبت كامب ديفيد وقيود المعونة الأمريكية، فقد عادت سيناء كاملة لمصر في حرب 1956، ولم يكن من تنازل سياسي غير قوة دولية رمزية وضعت جنوبا عند خليج العقبة، وكان ثقل قيادة عبد الناصر كافيا ـ لو عاش ـ لدعم إنجاز الجيش في حرب 1973، فلم يكن عبد الناصر ليقبل بمهانة التطبيع مع إسرائيل، وهو الذي كان يعتبر استعادة القدس في نفس أهمية استعادة سيناء، كان عبد الناصر قد نجح في إعادة صياغة المشهد العربي كله بعد هزيمة 1967، ونجح في خلق جبهة متماسكه ممتدة من دول الدعم إلي دول الجبهة، انتصر اليمن لنداء الجمهورية المدعوم من عبد الناصر بتسليم من السعودية، وظلت القيادة للقاهرة، وكانت تطورات السياسة في دمشق وبغداد والجزائر وطرابلس والخرطوم تمضي في تيار عبد الناصر العام، كان عبد الناصر في ذروة مجده الناضج، وكما لم يحدث منذ أواخر الخمسينيات، ولو عاش لتغيرت أمور كثيرة، فقد ظلت الخرائط الدولية مواتية لاستطراد حركته ذاتها إلي أوائل التسعينيات، كانت الفرصة قائمة للحاق الجيش المصري ـ ربما سبقه ـ لجيش إسرائيل في مستوي التسليح والتطوير التكنولوجي، وهو ما كاد يتم ـ إلا قليلا ـ قبل حرب أكتوبر، ولم يكن انفجار حرب لبنان الأهلية واردا، ولم يكن غزو العراق للكويت ـ ولا ما جري بعده ـ ممكنا لو عاش عبد الناصر، وكان بوسع مصر أن تظل رأس المنطقة وليس إيران ولا إسرائيل.كانت مصر ـ في الاقتصاد ـ أسبق من نمور آسيا، وفي سباق السلاح أسبق من الهند، ففي سنوات الستينيات كان ثمة مشروع صناعة سلاح مشترك بين القاهرة ونيودلهي، كان المشروع : صناعة الطائرة حلوان ، وجري تقسيم العمل، كانت الهند مكلفة بصناعة جسم الطائرة، وكانت مصر مكلفة بصناعة الموتور ، ولم تكن مصر ـ لو عاش عبد الناصر ـ لتصادق بصفة نهائية علي اتفاقية منع الانتشار الذري كما جري سنة 1981، أو توقع علي اتفاقية الحظر الكامل للتجارب الذرية كما جري سنة 1996، بل كانت ستحتفظ بحق الردع النووي رغم توقيع عبد الناصر بالأحرف الأولي فقط علي الاتفاقية سنة 1968، كانت بنية مصر الأساسية جاهزة منذ بدء المشروع النووي أواسط الخمسينيات، وكان بوسعها ـ لو عاش عبد الناصر ـ أن تصنع قنابلها الذرية، لا أن تظل مصر ومعها العرب تحت رحمة السلاح الإسرائيلي وترسانته النووية!وقد يقال لك ان نظام عبد الناصر هزم في 1967 لأنه لم يكن ديمقراطيا، وهذه خرافة أخري، وفضيحة عقلية بامتياز، فلا ارتباط شرطيا بين نوع النظم وهزائم الحروب، فدول ديمقراطية هزمت، ودول ديكتاتورية انتصرت، وهزيمة 1967 كانت هزيمة لسلاح لم يقدر له خوض المعركة أصلا، وكانت هزيمة قيادة عسكرية أصيبت بانفجار في المخ علي حد تعليق عبد الناصر وقتها، ثم ان عبد الناصر قرر تحمل المسؤولية كلها وحده، وقرر التنحي، وأعاده الشعب بانتفاضة تلقائية مذهلة في 9 و10 (يونيو) 1967، ولم يزد عنها في العدد سوي جنازته الاسطورية بخمسة ملايينها في القاهرة وحدها، صحيح أن عبد الناصر ألغي الأحزاب القديمة في صدامات 1953 و1954، وكان ـ بطبعه الفكري ـ معاديا لليبرالية لا للديمقراطية، كان معاديا لاحتكار السياسة للقلة المالكة، ومنحازا بقلبه وروحه وسياسته لأغلبية الناس الساحقة، لكنه لم يغلق الباب أبدا، ولم يصادر ـ من حيث المبدأ ـ علي فرصة التطور بتجربته إلي نظام متعدد الأحزاب. وقد جري حوار شهير متلفز بين عبد الناصر والمفكر الليبرالي الإسلامي خالد محمد خالد سنة 1962، كانت وجهة نظر خالد هي إعادة الأحزاب القديمة، وما من خطر في رأيه علي الثورة، فشعبية عبد الناصر المذهلة تضمن له الفوز الكاسح في الانتخابات، وكانت وجهة نظر عبد الناصر أنه يعطي الأولوية لتغيير مجتمع يفرز أحزابه فيما بعد، وكانت حساسية عبد الناصر فائقة لحرية التفكير والإبداع بالذات، فلم يصادر في زمنه كتاب ولا رواية، ولا منع فيلم ولا مسرحية، صحيح أنه جري التضييق علي حريات الصحافة، وجرت اعتقالات وتجاوزات وإعدامات سياسة لم تتجاوز عدد أصابع اليدين، لكنه كان يفهم حدود الإستثناء بالتجاوز الذي هو من طبع الثورات، وكان قادرا علي التصحيح الذاتي، فقد أطلق عبد الناصر بعد هزيمة 1967 صيحته عن سقوط دولة المخابرات، وتوالت موجات الإفراج عن المعتقلين. وحين مات عبد الناصر كان عدد المعـــــتقلين الســـــياسيين لا يزيد عن 273 شخصا، كانت ظواهر التجــــاوز تنحسر، وكان المجتمع الذي خلقـــــته ثورة عبد الناصر يشب عن الطوق، ويطالب بثورة تصحيح للثورة، كان التطور الإقتصادي الإجتماعي الثقافي قد خلق مجتمعا يفيض بالحيوية، وكانت مرحلة التنظيم السياسي الواحد تمضي إلي نهايتها، وكان عبد الناصر يريد التغيير لأن الشعب يريده، وفكر عبد الناصر في التحول لنظام الحزبين بشهادة محاضر اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الإشتراكي سنة 1968، ثم خطط للتحول لنظام متعدد الأحزاب بعد رد آثار العدوان، وكان بوسع مصر أن تزاوج ـ لو عاش عبد الناصر ـ بين نهضة الثورة وديمقراطية السياسة .
No comments:
Post a Comment