August 22nd, 2012
تفاعلت جمهورية الضباط مع التحول الاقتصادى الليبرالى الجديد وتعمق السلطوية السياسية منذ عام 1991، بمزيد من التغلغل والعزلة. وخلال العقد الأول اتسم هذا التفاعل بالتكيف السلبى، حيث تم نقل الشبكات غير الرسمية للضباط إلى الإدارات المدنية للدولة، مع قيام الضباط الموظفين فى هذه الإدارات بتعيين زملائهم المتقاعدين فى مناصب إدارية أو هيئات استشارية. هذه الشبكات تم استنساخها فى مشاريع تجارية مملوكة للدولة. لكن جمهورية الضباط تزحف الآن على نحو متزايد نحو القطاع الخاص، فهم يتعاملون بدرجة أكبر من المبادرة مع الفرص الاقتصادية والاجتماعية التى وفرها تعميق الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية منذ أوائل الألفية الثالثة.
وسواء كان الضباط يسعون إلى الاندماج بشكل كامل فى «الطبقة الوسطى الجديدة» الآخذة فى الصعود أم لا، فهم يشكلون طبقة مشابهة، عبر سعيهم لاقتناص الفرص الاقتصادية والانتقال إلى ما يشبه المجتمعات المنعزلة. اندمج الضباط فى نظام المحسوبيات الذى أسسه مبارك، وهو ما يكشف عنه تخليهم عن إرث العهد الناصرى، المتمثل فى سياسات العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، وبدلا من هذا لجؤوا إلى نهج أبوى تجاه غالبية المصريين الذين لم يستفيدوا من الإصلاحات الاقتصادية الجديدة. لكن معدلات الفساد والفقر والبطالة المرتفعة لا تعد مؤشرات إيجابية على مساهمة الجنرالات فى إدارة الدولة. لهذا لجأ المجلس العسكرى إلى خطاب قومى يستحضر ذكريات حرب أكتوبر، ويشير بشكل متكرر إلى «الأيدى الخفية»، وملىء بالحديث عن المؤامرات الخارجية، للدفاع عن مصادرة الجنرالات للحق فى تحديد المصلحة الوطنية.
هذه فحوى دراسة، يبدو أن الرئيس مرسى قرأها قبل قرار الإطاحة بجنرالات الجيش الذين يشكلون دعائم المجلس العسكرى، نشرتها مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى (مؤسسة خاصة غير ربحية تسعى إلى تعزيز التعاون بين الدول) ليزيد صايغ، وهو باحث أول فى مركز كارنيجى للشرق الأوسط فى بيروت. يحاول صايغ أن يلفت الأنظار إلى الخطوات الضرورية لصانع القرار فى الفترة المقبلة بهذه الدراسة، التى يبدو أن أهم ما فيها هو.. توقيت خروجها للنور.
هذه فحوى دراسة، يبدو أن الرئيس مرسى قرأها قبل قرار الإطاحة بجنرالات الجيش الذين يشكلون دعائم المجلس العسكرى، نشرتها مؤسسة «كارنيجى للسلام الدولى» (مؤسسة خاصة غير ربحية تسعى إلى تعزيز التعاون بين الدول) ليزيد صايغ، وهو باحث أول فى مركز «كارنيجى للشرق الأوسط» فى بيروت، يحاول صايغ أن يلفت الأنظار للخطوات الضرورية لصانع القرار فى الفترة المقبلة بهذه الدراسة، التى يبدو أن أهم ما فيها هو.. توقيت خروجها للنور.
المشاريع الاقتصادية العسكرية
تدير جمهورية الضباط اقتصادها العسكرى الرسمى الخاص، الذى يدر عليها مصادر دخل لا تمر عبر الخزينة العامة. يوجد مكتب خاص فى وزارة المالية يدقق فى حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها. وعلى الأرجح بالتنسيق مع مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، إلا أن بياناته وتقاريره لا تخضع لسيطرة أو إشراف البرلمان أو أى هيئة مدنية أخرى. ويعتقد أن جزءًا من العوائد ينفق على بدلات الضباط ومساكنهم. وعلى إدخال تحسينات أخرى على مستويات المعيشة، أما الباقى فيعاد استثماره أو يستخدم لتكملة الإنفاق على الصيانة والعمليات والمقتنيات التى لا تغطيها ميزانية الدفاع أو المساعدات العسكرية الأمريكية.
يتكون الاقتصاد العسكرى من أربعة أقسام رئيسية هى: الصناعات العسكرية التى تتبع وزارة الإنتاج الحربى، والهيئة العربية للتصنيع المملوكة للدولة. وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع، والمشاريع المدرة للدخل الخاصة بالقوات المسلحة بما فى ذلك النوادى والفنادق العسكرية وعقود الأشغال العامة المدنية التى تتولاها هيئة الهندسة العسكرية، ودائرة الأشغال العسكرية، ودائرة المياه التابعة لها. وقد تفرع هذا القطاع بأكمله إلى مجموعة متشعبة ومتنوعة ومتزايدة الأهمية للإنتاج المدنى وتقديم الخدمات فى القطاع المدنى منذ التسعينيات، وشيئًا فشيئًا يتصرف اقتصاد المؤسسة العسكرية كقطاع تجارى، ساعيًّا إلى إقامة الشراكات أو المشاريع المشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية الخاصة، وباحثًا عن فرص للتصدير والاستثمار فى الخارج.
«هذا لنا»: إعادة النظر فى المجتمع العسكرى المصرى
إن أحد أكثر الأمور لفتا إلى النظر هو المفارقة بين المدى الشمولى لحضور القوات المسلحة فى حياة مصر، وبين قلة ما يعرفه أى شخص من خارج المؤسسة العسكرية، وربما من داخلها، بتركيبتها الاجتماعية ويعكس هذا المزيج المتناقض من التغلغل والعزلة الطريقة الخاصة التى تفاعلت بها جمهورية الضباط، مع التحول الاقتصادى الليبرالى الجديد وتوطيد السلطوية السياسية منذ عام 1991. فى العقد الأول اتسم تفاعلها أساسًا بالتكيف السلبى. فقد نقلت الشبكات غير الرسمية التى تشكلت فى الكلية العسكرية وخلال الخدمة الفعلية إلى داخل الإدارات المدنية للدولة، وذلك مع قيام الضباط الموظفين فى تلك الإدارات بتعيين زملائهم المتقاعدين فى مناصب إدارية أو هيئات استشارية، كما استنسخت تلك الشبكات فى مشاريع تجارية مملوكة للدولة، حيث يقوم المديرون والإداريون ومسؤولو المقتنيات من ذوى الخلفيات العسكرية بمنح العقود إلى الإدارات الإنتاجية أو الخدماتية فى القوات المسلحة، أو بتلقى عقود منها لإنجاز مجموعة واسعة من خدمات البناء والتصنيع والتركيب والتجهيز والصيانة.
تعاملت جمهورية الضباط بدرجة أكبر من المبادرة مع الفرص الاقتصادية والاجتماعية التى وفرها تعميق الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة منذ أوائل الألفية الثالثة، وتتمدد شبكات الضباط حاليًّا على نحو متزايد إلى القطاع الخاص أيضًا، إذ إن عددًا قليلا فقط من الشركات المسجلة رسميًّا يوظف ضباطًا متقاعدين أو احتياطيين. كما أن الضباط قد يكونون فى طور تشكيل شركاتهم الخاصة للفوز بعقود من الباطن، ولا يقل أهمية عن ذلك طموح الشركات التجارية المملوكة للدولة التى يديرها عسكريون متقاعدون، والشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية، للعمل فى الأسواق الإقليمية والدولية الأوسع.
باختصار، أصبح كبار الضباط المتجذرين بقوة فى قطاعات الاقتصاد المدنى أكثر ميلا إلى المبادرة التجارية والاقتصادية، فهم يمتطون الحد الفاصل بين المجالين العسكرى والمدنى، والعام والخاص، لكنهم لا يزالون يعتمدون حتى الآن اعتمادًا كليًّا على التعيين السياسى والمنصب الإدارى فى داخل الدولة لتأمين مدخل إلى الاقتصاد والحصول على الفرص. وسواء كانوا يطمحون بصورة متعمدة إلى الاندماج التام فى «الطبقة الوسطى الجديدة» الآخذة فى الصعود أم لا، فإنهم بالتأكيد يحاكونها عبر تلمسهم الفرص التى تمنكهم من تأمين زيادات حادة فى الدخل القابل للتصرف به، والمضاربة فى قطاع العقارات، والانتقال إلى ما يشبه المجتمعات المسورة.
لا تزال هذه الاتجاهات فى طور النشوء، إذ لا توجد حدود واضحة المعالم بين المرحلة الأولى من الدمج فى نظام مبارك للمحسوبيات خلال التسعينيات وبين المرحلة الثانية، التى تزامنت مع تكثيف السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجديدة وتعميق الخصخصة، بدءًا من عام 2000، كما أن الحدود مبهمة بين جناح جمهورية الضباط الذى يتسم بميله البارز إلى المبادرة التجارية والاقتصادية، وبين السواد الأعظم من سلك كبار الضباط. لكن بالنسبة إلى الجميع شكّل الارتفاع الكبير فى المداخيل القابلة للتصرف بها الفائدة الكبرى، ولو أنها توزعت على نحو غير متكافئ فى أوساط جمهورية الضباط برمتها.
الاستيلاء على فرص الدخل
يَعتبر ضباط القوات المسلحة العاملون والمتقاعدون على حق، أن الرواتب وظروف الخدمة متدنية، ويدركون تمامًا أن الرواتب فى القطاع الخاص، وحتى فى المؤسسات التجارية المملوكة للدولة، قد ارتفعت أكثر بكثير من رواتبهم خلال العقدين الماضيين من الخصخصة المتتالية. وكما يشير المتقاعدون، على سبيل المثال، إلى أن الحد الأدنى لراتب الطيار الذى يعمل فى شركة الطيران الوطنية «مصر للطيران»، يفوق بمرات عدة راتب طيار مقاتل من سلاح الجو يمتلك سنوات كثيرة من الخبرة، وهذا يفسر الشعور بالامتعاض الذى يبديه بعض المتقاعدين عند سماعهم الحديث عن امتيازات المؤسسة العسكرية، لكن بالنسبة إلى غالبية الضباط المتقاعدين، الفرصة لزيادة المعاشات التقاعدية، وتعويضات نهاية الخدمة، وعلاوات التقاعد الممنوحة مدى الحياة براتب مكمل ثانٍ، والبدلات الإضافية المتصلة به، هى الأمر الأهم.
تبدأ الفرص خلال الخدمة الفعلية فى الواقع، بالنسبة إلى الضباط الذين يتم انتدابهم إلى وزارة الدفاع أو الكليات العسكرية أو الشركات أو المصانع المملوكة للمؤسسات العسكرية، أو الذين يعينون ملحقين عسكريين فى السفارات المصرية فى الخارج أو «أعضاء منتدبين» فى مجالس إدارة الشركات التجارية المملوكة للدولة. جميع هؤلاء يتلقون راتبًا ثانيًا، إلى جانب المكافآت أو البدلات أو المزايا الإضافية المرتبطة بكل منصب.
يأتى فى المستوى الأعلى التالى المتقاعدون العسكريون الذين يعيَّنون كمستشارين فى الوزارات وفى الهيئات الحكومية الأخرى، أو فى الشركات التجارية التى تقدم خدماتها لتلك الوزارات والهيئات، ويتمكن أصحاب النفوذ من الحصول على عدد من هذه التعيينات الاستشارية بالتوازى، التى ينطوى، فى الغالب أو فى المطلق، على القيام بغير المهام الشكلية أو بالحضور الرمزى، وتشير التقارير إلى أن الرواتب الاستشارية تتراوح بين 6000 و28000 جنيه مصرى (1000 و4670 دولارا) فى الشهر، إلى جانب البدلات والمكافآت التى تقدر بـ10000 جنيه (1667 دولارًا) شهريا. تعتبر هذه المبالغ لا تذكر وفقًا للمعايير الدولية، لكنها بالتأكيد أعلى من معاشات التقاعد التى يحصل عليها كبار ضباط القوات المسلحة فى نهاية خدمتهم (حيث لا يتجاوز راتب اللواء الـ500 دولار).
أما الأوفر حظًا فهم المتقاعدون العسكريون الذين يعينون فى مجالس إدارة الشركات التجارية المملوكة للدولة، أى الشركات القابضة والشركات التابعة لها أو المشاريع المشتركة معها التى يبلغ عددها الإجمالى نحو 150. ويشير بعض الضباط الذين يتحدثون من داخل المؤسسة الأمنية أو الإدارية إلى أنه من الشائع أن تتراوح الرواتب بين 100 ألف و500 ألف جنيه شهريًّا (16666- 83333 دولارا) شائعة، ويعتقد أيضا أن الشراكات الخفية ترفع الدخل السنوى لمن يحصلون على أعلى أجر، إلى ما بين 12 و100 مليون جنيه (مليونا دولار و16٫67 مليون دولار) ثمة مقياس يعين بواسطته كبار القادة العسكريين فى الشركات القابضة المملوكة للدولة الأكثر ربحية عند تقاعدهم. فى حين يتم تعيين الأقل رتبة فى شركات فرعية أو تابعة. ويتبع منح المناصب الإدارية فى المؤسسات التابعة للقوات المسلحة، مثل النوادى الاجتماعية والفنادق، منطقًا مشابهًا، مع أن جدول الرواتب فيها أدنى بكثير يمنح المتقاعدين العسكريين المتنفذين أفضل المواقع، مثل وسط القاهرة أو المنتجعات الساحلية قرب الإسكندرية أو العريش، فى حين يتولى أصحاب الحظوة الأقل إدارة مرافق أقل جاذبية فى أماكن نائية نسبيًّا.
استنساخ طائفة الضباط
يضاف إلى الدخل القابل للتصرف به توفير المساكن المجانية أو المدعومة للضباط، الذين يحق لهم قانونًا تأجيرها أو بيعها، وكما هى الحال بالنسبة إلى حقهم فى الحصول على راتب ثانٍ. فإن الضباط العاملين، الذين يكلَفون بواجبات خارج القوات المسلحة، يحصلون على مسكن إضافى عن كل وظيفة جديدة يحصلون على راتب من خلالها. من الواضح أن هذا الأمر يفيد، على وجه التحديد، الضباط ذوى الرتب المتوسطة والعليا المؤهلين لهذه التعيينات، لا صغار الضباط، كلما ارتفعت الرتبة، ازدادت جودة المساكن، إذ بات كبار القادة يحصلون الآن فى العادة على فيلات بدلا من الشقق. ويستخدم بعض الضباط الدخل الناتج عن الإيجار أو البيع لبدء مشاريع خاصة بهم، فى حين يشترى بعضهم الآخر أسهمًا فى شركات القطاع العام المملوكة للقوات المسلحة أو التى يرأسها ضباط سابقون، أو يسهمون معًا فى إطلاق مشاريع خاصة بهم، مثل المجمعات السكنية ومراكز التسوق.
نطاق كل ذلك كبير. فبحلول منتصف الثمانينيات، «تم بناء ما يقرب من خمسة فى المئة من مجموع المساكن التى شيدت فى البلاد من قِبل الجيش ولأجل الجيش. بما فى ذلك نسبة كبيرة داخل المدن العسكرية الجديدة المتناثرة فى الصحراء». ومنذ عام 1991 أشرف وزير الدفاع طنطاوى على انتقال سكن الضباط بالجملة باتجاه ما يسمى بالمدن العسكرية أو المدن «الصحراوية»، حيث شيد 24 منها، فى حين لا تزال ثلاث مدن أخرى قيد التخطيط والإنشاء، ولا يزال يطلق اسم «المدن العسكرية» على أول جيلين من هذه المدن، التى تم تخصيص قطع سكنية كبيرة منها وما يرتبط بها من مرافق للضباط. هذه المدن، التى يطلق عليها حاليًا اسم «المجتمعات العمرانية الجديدة» مفتوحة أيضًا أمام الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة التى توسعت مع تعميق خصخصة الاقتصاد المصرى خلال العقد الماضى. وهى تفاخر حاليا بسكانها البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة. ويتوقع أن يصل عددهم النهائى إلى 17 مليون نسمة. ومع انتقال الضباط إلى تلك المدن، استأجر أو استملك المدنيون المنتمون إلى الطبقة الوسطى أو دون الوسطى والتجار الصغار مساكنهم السابقة فى مناطق مثل مدينة نصر فى القاهرة، التى بنيت أصلا لإسكان الضباط، مما يقدم دليلا إضافيًّا على الفصل المترسخ بين الفضائين العسكرى والمدنى.
وتعزز العزلة نفسها بنفسها، تتجدد شبكات الضباط فى النوادى الاجتماعية الكثيرة التى يقيمها كل فرع وإدارة من القوات المسلحة، وحتى المصانع العسكرية، كل على حدة، فى المدن المصرية الرئيسية، توفر هذه الأندية الخدمات المدعومة لسلك الضباط، سواء العاملون منهم أو المتقاعدون، حيث تستخدم كصالات أفراح أو لتقديم الطعام فى المناسبات الاجتماعية الأخرى، وذلك بنصف سعر الصالات التجارية. كما يوفّر بعضها الإقامة المؤقّتة للضباط، إضافة إلى الفنادق والمنتجعات التى تديرها المؤسسة العسكرية فى المناطق الساحلية المرغوبة فى سواحل الشمال وسيناء والبحر الأحمر. وبإمكان المدنيين أيضا، الذين لديهم المال والعلاقات، استخدام مختلَف هذه المرافق، وفى أغلب الأحيان هؤلاء هم أفراد الطبقة السياسية أو أجهزة الدولة أو أبناؤهم. ولعل ما يكشف عن طبيعة الوعى الطبقى الجديد لجمهورية الضباط هو أن المنتقبات والرجال الذين يرتدون «الجلابية الفلاحية»، يُمنَعون من دخول النوادى العسكرية، وذلك لما لهذه الأزياء من دلالة واضحة على تدنّى المستوى الطبقى.
فضلا عن ذلك، تدير القوات المسلحة متاجر وتعاونيات استهلاكية ومحطات وقود خاصة بها، حيث يستطيع العسكريون وأفراد عائلاتهم شراء السلع الاستهلاكية بأسعار مخفّضة. كما تحصل العائلات على «كارنيه»، وهى قسائم لشراء الاحتياجات المنزلية الأساسية؛ وقد يحصل الضباط المتنفّذون على عدد إضافى من الدفاتر (الكارنيه) الإضافية، بدلا من العدد المخصّص لهم الذى يكون عادة اثنين أو ثلاثا، حيث يستطيعون إعطاءها إلى الأقارب أو الأصدقاء. هذه الميزات الأخيرة مُتاحة لجميع الجنود وضباط الصف والضباط المتطوّعين (أى غير المجنّدين) فى القوات المسلحة والبالغ عددهم 148500، لكن هذا يحجب حقيقة أن معظم المزايا والامتيازات تُجيَّر لصالح كبار الضباط.
لا يزال الدخول إلى سلك الضباط يوفّر وسيلة لارتقاء السلم الاجتماعى وضمان الأمان الوظيفى بالنسبة إلى الكثيرين. لكن بينما لحق سلك الضباط بالأنماط الاستهلاكية والسكنية المنفصلة للطبقة الوسطى الجديدة، أصبح الانضمام إلى السلك يتّسم بدرجة أقل بكثير من الديمقراطية. وأدّى ذلك إلى إلغاء تدريجى لأحد أهم مظاهر المساواة الاجتماعية التى تميّز بها عهد عبد الناصر، والتى سهّلت دخول أبناء العائلات الفقيرة أو الأمية وعائلات الطبقة دون الوسطى إلى الكليات العسكرية. أما الآن، فلا تتجاوز نسبة الترقّى من رتبة جندى متطوّع أو ضابط صف (غير المجنّدين) عشرة فى المئة من نسبة الضباط الجدد الذين يتم قبولهم. أما الذين يصبحون ضباطًا بهذه الطريقة، فلا يُرَقَّون إلى ما بعد رتبة نقيب، مما يحدّ من عدد ونفوذ المقبولين ممَّن ينتمون إلى جماعات الدخل المحدود. ويشكّل التحصيل العلمى حاجزًا إضافيًّا، حيث يُحظر على المتقدِّمين الذين لا يحمل والداهم شهادات جامعية من دخول الكلية العسكرية. وفى كل الأحوال، ينتمى الحاصلون على درجات عليا فى امتحانات القبول عادة إلى عائلات قادرة على تحمّل نفقات المدارس الخاصة أو الدروس الخصوصية الإضافية.
المدنيون بوصفهم عيالا
يتمثَّل الوجه الآخر لآثار الاندماج فى نظام المحسوبيات الذى أسّسه مبارك على جمهورية الضباط، فى تخلّيها عما تبقّى من تعلّق بإرث العهد الناصرى المتمثّل فى السياسات الحكومية الاجتماعية الهادفة إلى إعادة توزيع الثروة. وتبنَّت بدلا من ذلك مقاربة أبوية تجاه الغالبية العظمى من المصريين الذين لم يستفيدوا من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التى طُبِّقَت خلال العقد الماضى. وقد تحولت الرعاية الاجتماعية والتنمية إلى صدقات وحظوات، بدلا من أن تكون استحقاقات، تمنح وفقا لتقدير ومزاج القادة، باستخدام الأموال والأصول التى يتحكّمون بها حصرًا.
فحين تبنى القوات المسلحة الجسور والطرق السريعة بين المدن والطرق الدائرية والمخابز ومحلات الجزارة فى الأحياء المدنية الفقيرة، ومحطات تنقية المياه وتحليتها، تصفها بأنها «هدية إلى شعب مصر»، متجاهلة حقيقة أن الموارد المستخدمة فى نهاية المطاف تأتى من المال العام أو ينبغى أن تدخل إلى خزينة الدولة. وحرصًا منها على تعزيز صورتها كفاعلة خير، تعلن القوات المسلحة دوريًّا كذلك عن توزيع عشرات الآلاف من «الشنطات» الغذائية المجانية على الفقراء والمستفيدين من الضمان الاجتماعى فى عيدى الفطر والأضحى.
وقد لجأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصورة متزايدة إلى تبنّى هذا الموقف الأبوى، بعد أن بدأت علاقته بالأحزاب السياسية الجديدة، خصوصًا الإسلاميين، تتّسم بالخصومة بعد صيف عام 2011. ففى أكتوبر، على سبيل المثال، أعلن طنطاوى تخصيص 3876 فدانا من الأراضى التى يسيطر عليها الجيش لبناء مساكن للمدنيين فى أسيوط، ثم أصدر مرسومًا يقضى بالتبرع بمليارى جنيه مصرى (333 مليون دولار) من أموال الجيش لبناء «مساكن اجتماعية» فى المدن لذوى الدخل المحدود، وذلك فى ذروة الاحتجاجات المناهضة للمجلس العسكرى التى شهدها شهر نوفمبر. كانت المبادرة الأخيرة جزءًا من خطة وطنية لبناء مليون وحدة سكنية فى كل محافظات مصر على مدى خمس سنوات؛ وتقوم القوات المسلحة ببناء 25000 وحدة منها، إلى جانب «التبرع» بأراضٍ فى القاهرة وحلوان ومدن أخرى. بعد ذلك بأسبوعين فقط، أعلن المجلس العسكرى أنه سيقرض البنك المركزى مبلغ مليار جنيه (167 مليون دولار) لدعم الجنيه المصرى حين تعرّض سعر صرفه إلى التراجع. باختصار، يزعم المجلس العسكرى أنه ضخّ ما مجموعه 12.2 مليار جنيه مصرى (2.33 مليار دولار) من موارده الخاصة فى جهاز الدولة خلال السنة المُنتَهية فى مارس 2012.
تقوم هذه النزعة الأبوية للمجلس العسكرى على ثقافة عسكرية تعتبر المدنيين أقلّ شأنًا أو «أعيالا». فى عهد عبد الناصر كانت الجداريات والأشكال الفنية الأخرى فى وسائل الدعاية السياسية تُظهِر الجنود وهم يصنعون المستقبل يدًا بيد إلى جانب الفلاحين والعمال والمعلمين أو المثقّفين. لكن الملصق الذى تصدَّر الحملة الإعلامية التى أطلقها المجلس العسكرى، فى مارس 2012، تحت عنوان «الجيش والشعب إيد واحدة»، كشف عن نظرة مختلفة تماما. يتمثّل الجيش، فى هذا الملصق، فى صورة جندى بكامل عدّته القتالية، أما الطفل الرضيع الذى يحمله هذا الجندى بين ذراعيه فهو كناية عن «الشعب». ويستحضر ذلك إلى الذهن المصطلح العامى المصرى «عيال» (أى المُعالين) الذى يُستخدَم لوصف الزوجات والأطفال، والذى يذكِّر أيضا بالنداء المباشر الذى وجّهه مبارك إلى «أبنائى» الشعب المصرى فى خطاب متلفز خلال الأيام الأخيرة من حكمه. وهذا يعكس الاعتقاد بأن المجلس العسكرى هو بالضرورة «الأعلم» عندما يتعلّق الأمر بمصالح مصر واحتياجاتها، كما يعكس قناعته، التى لا تقل أنانيّة عن ذلك الاعتقاد، بأن السياسيين والبيروقراطيين المدنيين أقل كفاءة ونزاهة ووطنية، أو على أقل تقدير يحتاجون إلى التوجيه الأبوى.
وقد استُخدم الخطاب المعادى للمدنيين لتبرير اختراق الضباط السابقين جميع أجهزة الدولة، وإشراك القوات المسلحة والشركات والهيئات الاقتصادية العسكرية فى تقديم الخدمات الاجتماعية والمنافع العامة الأخرى إلى جانب مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية. وتعود جذور هذا الخطاب إلى سعى عبد الناصر لتعزيز مؤهّلات كبار الضباط، ليجعل منهم «مجموعة من الكوادر التكنوقراطية القادرة على تحدّى نظرائها المدنيين بفاعلية»، لكن الادعاء اليوم بأن المديرين العسكريين يستطيعون القيام بكل شىء على نحو أفضل من نظرائهم المدنيين، ينطوى على قدرٍ من التضليل والخداع. فإن قدرة المتقاعدين العسكريين على «تدبير الأمور» هى نتيجة مُتوقَّعة لأنهم هم الذين أوجدوا جزءًا كبيرا من النظام الإدارى الذى يعملون ضمنه وتتوغل فيه شبكاتهم، مما يسهِّل عليهم السلوك بسهولة وأمان عبر دهاليزه.
فى الحقيقة، إن ارتفاع معدلات الفساد فى مصر (صنّفتها منظمة الشفافية الدولية فى عام 2011 فى المرتبة 112 من بين 182 بلدًا) ومؤشّراتها الاجتماعية الضعيفة (يعيش 40 فى المئة من السكان عند أو تحت خط الفقر المتمثل بدولارين فى اليوم، فى حين عاودت الأمية الارتفاع لتصل إلى 27 فى المئة وفقًا للأرقام الرسمية) لا تُعتبَر مؤشرًا إيجابيًّا على المساهمة التى قدمتها جمهورية الضباط لإدارة الدولة المصرية. لذلك لجأ المجلس العسكرى مرارًا وتكرارًا إلى خطاب قومى قائم على استحضار «انتصار» القوات المسلحة فى حرب عام 1973 ضد إسرائيل، مقرونا بإشاراته المتكرّرة إلى «الأيدى الخفيّة» و«المؤامرات الخارجية»، للدفاع عن مصادرته الحقَّ فى تحديد المصلحة الوطنية.
يستخدم المجلس العسكرى هذا الخطاب ليدافع عن زعمه بأنه لا يمكن عمومًا ترك الشؤون الخارجية والدفاع فى أيدى القادة المدنيين، وليؤكّد حقّه فى التدخّل فى مجالات السياسة الداخلية مثل توفير الغذاء أو إعادة الهيكلة الاقتصادية بحجّة أنها قد تؤثّر على الأمن القومى من خلال التسبّب فى حدوث اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسى. ويدّعى المجلس العسكرى، عبر وضع هذه العناوين تحت عنوان «الأمن القومى»، أن له وضعًا خاصًا يستوجب اعتباره وصيًّا على النظام الدستورى فى مصر، مما يضفى عليه واجب منع التأثيرات المحتملة المُزَعزِعة للاستقرار الناجمة عن عملية التحوّل الديمقراطى «المفرط». وها هو يقوم بذلك الآن باسم «الثورة»: فمن خلال مصادرته هذا المصطلح، والخلط بينه وبين إطاحة القوات المسلحة بالنظامَ الملكى فى عام 1952، يعيد المجلس العسكرى تنصيب نفسه على أنه الأب المؤسّس للتحوّل الديمقراطى فى مصر، ويبرّر احتفاظه بالسلطات التقديرية والاستقلال الكاملين.
No comments:
Post a Comment