أطلقت موجة الإضرابات
والاعتصامات العمالية والمهنية التى تشهدها مصر فى الوقت الراهن، موجة مناظرة من التفسيرات
لهذه الإضرابات والاعتصامات التى تعيد مشهد الاحتقان الاجتماعى الذى كان حاضنة الثورة
ضد النظام الفاسد والظالم فى عهد الرئيس المخلوع مبارك ومن بعده فى عهد الرئيس المعزول
د. محمد مرسي. كما أن أرباب المعاشات المضارين من تدنى معاشاتهم، ومن سوء استغلال الحكومات
المتعاقبة أموال التأمينات التى تخصهم وتخص العاملين الذين مازالوا فى الخدمة، تثير
بدورها احتقانات وتهديدات بموجة مناظرة من الاحتجاجات، إذا لم تتم تسوية قضية أموال
التأمينات بصورة عادلة تعيد الحقوق لأصحابها بصورة تتوافق مع روح ونصوص الدستور الجديد
الذى ينص على أن أموال التأمينات هى أموال خاصة مملوكة للمؤمن عليهم، وينبغى أن تدار
لمصلحتهم بصورة آمنة تحقق أعلى عائد ممكن من خلال هيئة مستقلة.
وقد ذهب البعض فى تفسيره
لموجة الإضرابات والاعتصامات العمالية والمهنية والتهديدات بالتحرك الاحتجاجى لأرباب
المعاشات ــ إلى أن التنظيمات الطائفية المتطرفة دينيا، وفى مقدمتها جماعة الإخوان
تقف وراء تلك الاحتجاجات، باعتبارها مدخلا لإثارة الاضطراب للدولة عبر استغلال قضايا
اقتصادية واجتماعية.
والحقيقة أن جماعة الإخوان
لا تدخر جهدا فى ممارسة أقصى درجات الانتهازية فى استغلال قضايا اجتماعية حقيقية لم
تنتصر لها وهى فى السلطة، من أجل إثارة الاضطراب الاجتماعى والسياسى والتحايل على حالة
الكره الشعبى لها ولعنفها ولكل أشكال الإرهاب التى تمارسها وترعاها هى وحلفاؤها. لكن
تلك الحقيقة لا تنفى حقيقة أخرى أكثر أهمية وجلاء، وهى أن هناك قضايا سياسية واقتصادية
واجتماعية ملحة، ولابد من معالجتها بطريقة جديدة تنتصر للحق والعدل والحرية ومجمل الحقوق
السياسية والاقتصادية والاجتماعية للإنسان، بدلا من إعادة إنتاج الطريقة البائسة والظالمة
والقمعية لنظامى مبارك ومرسي.
وبما أن الموضوع الرئيسى
للإضرابات والاعتصامات العمالية والمهنية هو نظام الأجور ومطالبة العاملين بتطبيق الحد
الأدنى للأجور عليهم، ومطالبة المهنيين بكادرات خاصة بهم، فإن المدخل الأكثر فعالية
لمعالجة هذه الاحتجاجات الاجتماعية، هو إصلاح نظامى العمل والأجور معا، سواء تم ذلك
بشكل متدرج وفقا لخطة واضحة ومجدولة زمنيا، أو تم بصورة فورية وشاملة إذا توافرت الإمكانات
لذلك.
ورغم أن الخطوات التى
تتخذ فى اتجاه تحقيق أى إصلاح لنظام الأجور، قد يراها أصحاب حقوق العمل من عمال ومهنيين،
بطيئة وجزئية أو حتى قزمية ولا ترضى طموحاتهم، إلا أن اللافت أكثر أن نظام العمل باق
كما هو بلا أى إصلاح، حيث ينتشر التسيب والإهمال وتضييع وقت العمل، والتكاسل لتوفير
الجهد للعمل لدى جهة أخرى منافسة لجهة العمل الأصلية! وهذا الانفصال بين عملية إصلاح
نظام الأجور ونظام العمل، يعنى استمرار فوضى العمل غير المنضبط وعدم تأسيس تقاليد جديدة
لضبط العمل كجزء مهم من أى عملية شاملة لإصلاح نظامى الأجور والعمل معا.
وتتمثل الاختلالات الرئيسية
لنظام الأجور الموروث من عهدى مبارك ومرسى فى عدة عناصر: الأول هو عدم وجود حد أدنى
يكفى لحياة كريمة للعمال وحتى المهنيين. والثانى يتمثل فى غياب التوصيف الوظيفى والمهنى
بما يجعل أصحاب المهنة الواحدة ونفس سنوات الخبرة ممن يعملون لدى الدولة يحصل بعضهم
على أضعاف ما يحصل عليه نظراؤهم. والثالث هو عدم وجود حد أقصى للأجر وما فى حكمه. كما
أن نظام الكادرات الخاصة المعمول به هو نظام تمييزي، بدأ بحالات استثنائية، وانتهى
بحالة عامة من العشوائية والتخبط وسوء توزيع الدخل وافتعال الأسباب للخصوصية بصورة
تلفيقية لا مبرر لها.
وقد أقرت الحكومة نظاما
للحد الأدنى للدخل للعاملين، أثار اضطرابات أكثر من تلك التى أثارها عدم وجوده، فضلا
عن أنه جسد درجة من التشوش فى مفهوم الحد الأدنى للأجر. فقد استبعدت الحكومة العاملين
فى الهيئات الاقتصادية وقطاع الأعمال العام من تطبيق الحد الأدنى للدخل، واعتبرت أن
من حق تلك الجهات أن تعالج نظام الأجور لديها وضمنه الحد الأدنى للدخل على ضوء مواردها
الذاتية، وهو ما استتبعه تنظيم العاملين بتلك الجهات لتظاهرات واعتصامات واسعة النطاق.
كما أن القطاع الخاص لم يطبق عليه هذا الحد الأدنى للدخل، بينما يعتبر الحد الأدنى
للأجر، حدا مطلقا للأجر يطبق حتى على العمال المؤقتين وعمال المياومة، سواء تم تحديده
بإرادة منفردة للدولة من منطلق مسئوليتها الاجتماعية وتقديرها لقواعد العدالة بين العاملين
وأرباب العمل، كما كان الحال فى مصر بعد عام 1952، أو تم تحديده بالتفاوض بين ممثلى
الدولة والعمال وأرباب الأعمال. كما أن رفع الحد الأدنى لدخل العامل يتطلب إصلاح دخول
العاملين القدامى بصورة عادلة.
No comments:
Post a Comment