Sunday, October 9, 2011

شرف البدلة

  التحريرمقالات بلال فضل
October 8th, 2011
تلقيت هذه الرسالة المؤسفة التى تحمل هذا العنوان من أحد مصابى الثورة، الذى طلب منى عدم نشر إسمه. أنشر الرسالة كاملة بنفس أسلوب كاتبها مع خالص الأسى والحزن على أمل أن يفتح المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحقيقا فوريا فيها، لا يكون مصيره ككل التحقيقات التى أعلن عنها، ولم نعرف عن سيرها ونتائجها شيئا.

تقول الرسالة: «أنبل ما فى الشباب الذى نزل يوم 25 يناير أنهم نزلوا وهم يعلمون أن من بين بنى وطنهم من لا يستحقون أن يحيوا بكرامة وشرف، وأنبل ما فى الشهداء والمصابين أنهم يعلمون أن هناك أناسا أحقر من أن تراق لأجلهم قطرة دم واحدة، لكنهم ضحوا بدمائهم من أجل هذا الوطن الغالى. مرت تسعة أشهر بالتمام والكمال على أعز وأكرم أيام جيلنا، بل لعلها أكرمها فى تاريخ أمتنا ووطننا، ولكن توقف التاريخ عند تلك الأيام لتصبح ومضات من ذكريات جميلة نُصبِّر بها أنفسنا على ما نحيا فيه الآن.
تغير حقيقى من القليل الذى تغير ألمسه قبل أيام العزة وبعدها، هو أننى كنت قبلها أرى بعينىّ الاثنتين، أما الآن لم تبق لى سوى عين واحدة. ففى تمام السابعة مساء يوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير أراد الله -عز وجل- أن أكمل بقية حياتى التى لم يمض منها سوى أربع وعشرين عاما بعين واحدة، بعد أن أصبت بطلق خرطوش، وبعد أن أبى أن يذهب الظالمون إلا ويتركون فينا آلاما وعاهات تذكرنا دوما كم كانوا ظالمين. وحقيقة ظللت أجاهد خواطرى ونفسى وأمنيها أن دماء شهدائنا لم تذهب هدرا، وأن عينى لم تذهب هباءً حتى ما حدث ليؤكد لى أول سطرين كتبتهما فى تلك الفضفضة.
منذ أيام تلقيت تليفونا مبكرا من مكتب أحد لواءات الجيش، وكلمنى بنفسه يسأل عن إصابتى، كانت والدتى قد أصرت قبل ذلك بأيام على أن نقدم طلبا إلى المجلس العسكرى للسفر للعلاج بالخارج بعد أن تقطعت بنا السبل وفقدنا الأمل للعلاج فى مصر، خصوصا أننى لا أزال أرى رؤية ضعيفة بعينى المصابة، وبعدها بشهرين وبعد أن ذهب النور من عينى كانت تلك المكالمة، واستغربنا جدا أنا وأمى، حيث أخبرنا بضرورة أن نذهب لنقابله الآن فى أحد المستشفيات العسكرية، لنبحث ما يمكن إجراؤه، ارتدت أمى ملابسها سريعا مستبشرة لعله الأمل الذى كانت تنتظره، وخلال ساعتين كنا أمام اللواء فرحب بنا ثم نادى على إحدى الممرضات التى أخذت بياناتى، ثم ذهبت بى إلى أحد عنابر المستشفى، الذى التقيت فيه خمسة أو ستة مصابين من بسطاء المصريين، يجلس كل منهم على سرير ليروى معاناته وآلامه، كان منهم من جاء من الباسلة السويس وآخر من بورسعيد وثالث من طنطا وكلهم مصابون بطلقات حية أو خرطوش، وكان فى السرير المقابل يجلس أمامى شاب جلس صامتا لا يتكلم، علمت بعدها أنه فقد كلتا عينيه فى اللجان الشعبية على يد أحد البلطجية.
انتظرنا عدة دقائق ثم دخلت علينا ممرضة، أحضرت لنا ملابس المرضى، وأخبرتنا أن نرتديها، فاستغربت جدا وأخبرتها أننى مصاب فى عينى ولا أفعل شيئا منذ تسعة أشهر إلا الذهاب إلى المستشفيات والكشف عند الأطباء، ولم أرتدِ مثل تلك الملابس من قبل، أكدت علينا ضرورة ارتدائها دون أن تبدى أسبابا، وأصرت على أن أرتديها. ارتدى معظم المصابين تلك الملابس وجلس كل منهم على سريره وانتظرنا عدة دقائق دخلت بعدها مجموعة من المصورين يمسك أحدهم بكاميرا تليفزيونية والآخر بكاميرا فوتوغرافية وبدؤوا فى التجهيز للتصوير، ثم دخل علينا عسكرى بيده ميكروفون، وأخبرنا أن سعادة اللواء هيتصور مع كل مصاب ويقول كلمتين، حقيقة شعرت بغصة فى نفسى، وأخبرت العسكرى أنى لا أريد التصوير، دخل اللواء وبدأ التصوير بالترتيب من سرير إلى سرير، ووقفت أرقب ما يقال، وعلى وجهى ابتسامة أدارى بها ما شعرته فى نفسى من مهانة، بدأ كل مصاب يروى عن حالته ويشكر الجيش ويروى اللواء ما قدمه الجيش للمصاب، حتى وصلوا إلى مصاب من السويس أصيب إصابات بالغة فى عينه وقدمه، وكسابقيه بدأ يروى عن حالته واللواء يُعقِب ثم تدخل العسكرى الممسك بالميكروفون وأخبر المصاب أن يوجه شكرا إلى محافظ السويس على الشقة التى أخذها من المحافظة، فوجه المصاب شكرا إلى محافظ السويس ثم أخبره العسكرى بأن يقول للكاميرا طلبه وشكواه بتبديل الشقة من الدور الخامس إلى الدور الأول، فنظر المصاب فى الأرض وأصر العسكرى أن يطلب المصاب هذا الطلب، بحجة معرفة كل طلباته.
انتهى التصوير مع كل المصابين البسطاء الذين بالفعل عالج الجيش بعضا منهم، كان هذا أول لقاء لهم مع الجيش مثلى، وكان هذا أحد أسباب رفضى التصوير، وظل اللواء يحاول أن يقنعنى بالتصوير، ولكنى تساءلت فى نفسى «أتصور أقول إيه؟» ومع إلحاحه وبعد أن سألنى عن عملى، فأخبرته أنى مهندس، قال لى إنهم كلمتين سيقولهم هو ثم نذهب للكشف ونرى ما يمكن عمله، ازداد إصرارى وأخبرته أنى سأقول أمام الكاميرا كلاما سيضايقه، وأننى جئت للعلاج ولم آتى للتصوير، وللحق كان هذا اللواء رجلا طيبا واستشعرت أنها أوامر لا بد أن ينفذها، ولكنى فى النهاية أبيت أن يتم تصويرى. بعد هذا الفيلم الذى استمر أكثر من ساعة جلست لأنتظر ما يقرب من ساعة أخرى أن يتم الكشف علىّ، وكشف علىّ أحد الأطباء برتبة عقيد، كان رجلا شديد الاحترام واسى أمى، وأخبرنا أن يعوض علينا الله سبحانه ويحفظ عينى الباقية.
أخيرا للبدلة العسكرية فى نفوسنا شرف ومجد ارتبط دوما فى أذهاننا ببطولات وانتصارات، وتأبى أنفسنا إلا أن تكون مصدر فخرنا وعزنا، كما تأبى أنفسنا أيضا أن يصيب تلك البدلة دنس السياسة.
مصرى مصاب من 6000 آلاف من مصابى ثورة الغضب.
انتهت الرسالة ولا أجد كلاما صالحا للنشر أقوله سوى كلمة (عيب)، وفى انتظار التحقيق العاجل والاعتذار الكامل لجميع المصابين من أبطال ثورة الخامس والعشرين من يناير.

No comments: