من كتابات المفكر الكبير جمال البنا
نشأ هذا اللبس من اعتبار الأحكام التى أسسها الفقهاء والأئمة منذ ظهور المذاهب فى القرن الثالث الهجرى ومن ظهر بعدهم من المجددين، مثل «ابن حزم» و«ابن تيمية» فى القرن الثامن، والشوكانى فى القرن الحادى عشر، ومحمد عبده فى القرن الرابع عشر الهجرى، حتى زعماء الدعوات الإسلامية المعاصرة (المودودى - حسن البنا - سيد قطب) - هى الآراء التى تمثل وجهة نظر الإسلام فى العلمانية وفى غيرها.
وهذا لَبْس مفهوم، فأساتذة الجامعات الدينية يرون فى هؤلاء أساتذتهم العظام، كما أن أساتذة الجامعات المدنية والمستشرقين يرون فى هؤلاء الأئمة الممثلين الطبيعيين للفكر الإسلامى، ومن هنا اتفق الجميع على اعتبارهم المرجعية المعتمدة والمقررة للتعبير عن الإسلام.
والحقيقة أن هؤلاء جميعاً، حتى المتقدمين منهم كأئمة المذاهب الأربعة، خضعوا لمناخ سياسى واجتماعى وثقافى معين، وتأثروا تأثراً عميقاً ببيئاتهم، وسمح تأخر تدوين السُّنة لمائة وخمسين عاماً بعد هجرة الرسول، بإقحام أعداد هائلة ــ بمئات الألوف ــ من الأحاديث المكذوبة، كما أن أسلوب القرآن القائم على المجاز الفنى، والنظم الموسيقى، واللمسة السيكولوجية، أفسح المجال للتأويل والتفسير ودخول إسرائيليات عديدة فى كتب التفسير المعتمدة، وبقدر ما كان الزمن يبعد عن العهد النبوى، ويوغل فى ظلمات الحكم الفردى وسيادة الجهالة، وهيمنة الفرس والترك والديلم على الخلافة وتمزق العالم الإسلامى.. بقدر ما كانت هذه المؤثرات تنعكس على كتابات وأحكام الفقهاء، لأنه من العسير جداً على الكاتب أن يخرج عن أطر عصره ومستوى فهــم هذا العصر، وليس أدل على هذا من أنه عندما تكاثفت الظلمات قرر الفقهاء أنفسهم إغلاق باب الاجتهاد مما يصور العجز عن إعمال العقل والتسليم بما ذهب إليه الأئمة والأسلاف، أى الإفلاس الفكرى كلية.
وبصرف النظر عما فى هذا الكلام من حقيقة فإن الأمر الذى لا نزاع فيه، والذى يرقى إلى مستوى البدائه، أن ما يمثل الإسلام حقاً هو كتاب الإسلام الأصيل ــ أى القرآن ــ وكان المفروض عندما يراد معرفة حكم الإسلام فى أمر أن يعاد إلى القرآن نفسه، وليس إلى تفسيرات المفسرين له الذين خضعوا للمؤثرات التى أشرنا إليها، وحافت على النص القرآنى. كما كان يجب أن تضبط السُّنة ــ التى تسلل إليها الوضع ــ بضوابط القرآن حتى لا يُسمح للأحاديث الموضوعة أو المحرفة بإصدار أحكام مجافية أو حتى مخالفة للأصول التى أرساها القرآن.
ولكن لما كان ذلك أمراً صعباً، وفى الوقت نفسه يجاوز الأطر السلفية والأحكام التى وضعها بالفعل أئمة المذاهب، فقد آثر الكتاب الإسلاميون، وتبعهم فى هذا المستشرقون، أن يأخذوا أحكامهم من الأحكام الفقهية التى وضعها الفقهاء منذ ألف عام.. واعتبروها حكم الإسلام.ومن هنا نشأ اللَبْس وأخذ ما يقال أو يكتب عن حكم الإسلام من الفقهاء، حتى لو كان يجافى أو يخالف حكم القرآن تبعاً للعوامل التى تحكمت فى الفقهاء وأشرنا إليها آنفاً.
No comments:
Post a Comment