ربما لا يصح لأحد ـ عاقل ـ مجرد طرح اسم جمال مبارك لتولى منصب الرئاسة
فى مصر ، فهذه جريمة كاملة الأوصاف ، واغتصاب علنى مباشر للسلطة والثروة فى بلد عظيم
منكوب .
لا نتحدث هنا ـ فقط ـ عن صحيفة الحالة السياسية لجمال مبارك ، فليس له
من قيمة سوى أنه ابن الرئيس ، ولو لم يكن كذلك ، ربما ما التفت إليه أحد ، ولا جرى
إقحامه فى الحياة المصرية بصورة فجة غليظة القلب ، وفرضه على الأسماع والأبصار ، وتزوير
الدستور على مقاسه ، وجعله شريكا فعليا فى " رئاسة مزدوجة " مع الأب ، وطرح
اسمه لتوريث الرئاسة رسميا بتعيينات إدارية تنتحل صفة الانتخابات (!).
و" الجناية السياسية " ليست وحدها عنوان الجريمة فى قصة جمال
مبارك ، فتأييد توريثه للرئاسة ـ صراحة أو ضمنا ـ عار أخلاقى قبل أن يكون عارا سياسيا
، وعطب فى الضمير قبل أن يكون خللا فى التفكير ، وفساد فى الذمة ، وخيانة للأمة .
ربما السبب فى صحيفة الحالة الجنائية لجمال مبارك ، وهى أسوأ بمرات من
صحيفة حالته السياسية ، وكما لا يصح السؤال عن تأييد توليه للرئاسة من عدمه ، فإن الطلب
الذى يصح ـ بسند القول والممارسة ـ هو محاكمة جمال مبارك ، والآن وليس غدا بعد أن تكون
الفأس وقعت فى الرأس ، فهو يستحق المحاكمة العاجلة من ثلاثة وجوه على الأقل ، أولها
: يخص ثروته التى تضخمت وصارت بالمليارات ، وثانيها : عن انتحاله لصفات دستورية وتنفيذية
ليست له ، وتجعله فى وضع سارق الصفات ، وثالث وجوه المحاكمة المطلوبة يتعلق بمسئوليته
المباشرة عن جرائم بيع أصول مصر وتجريف ثروتها الانتاجية والريعية
وفى التفاصيل بعد العناوين ، فلا أحد يعلم ـ بالضبط ـ كيف تكونت الثروة
الشخصية المليارية لجمال مبارك ، وفى مصر قانون موقوف عن العمل اسمه : من أين لك هذا
؟، وقد جرى تحنيطه فى إدارة لاحول لها ولا طول اسمها " الكسب غير المشروع
"، وتكتفى بتلقى إقرارات الذمة المالية لموظفى الدولة حتى منصب الرئاسة ، وبالطبع
لا يوجد ـ حتى لدى هذه الإدارة الشكلية ـ إقرار ذمة مالية لجمال مبارك ، فهو ليس موظفا
رسميا بعد ، بينما دوره الفعلى يفوق أدوار كافة الموظفين الرسميين ، وما نطلبه ـ بالدقة
ـ شئ غاية فى البساطة ، فجمال مبارك يتحدث كثيرا ـ كالببغاء ـ عن إتاحة المعلومات وضمان
الشفافية ، ونحن لا نطلب سوى أبسط مبادئ الشفافية ، وهو أن يقدم جمال مبارك إقرارا
بذمته المالية ، على أن ينشر فى وسائل الإعلام ، ويكون قابلا للطعن عليه ممن يعرف ،
والنكتة المصرية المشهورة تتحدث عن جواب عبثى لمصادر ثروة جمال مبارك ، وتنقل عن مبارك
الأب قوله : أن ثروة الابن المليارية بدأت من مصروف جيبه الشخصى ، والنكته ـ كما هو
ظاهر ـ أقرب إلى الكوميديا السوداء ، فقد ولد جمال مبارك بلا ملعقة ذهب فى فمه ، ولد
لأب كان يعمل ضابطا بالقوات المسلحة ، ولا يملك سوى راتبه المحدود ، وأدخل ابنه الأصغر
إلى مدارس التعليم الأجنبى ، فقد تعلم جمال مبارك فى مدرسة مسز دوللى الإبتدائية ،
ثم فى مدرسة سان جورج الإعدادية ، وحصل على الثانوية الإنجليزية ، وتخرج فى الجامعة
الأمريكية بالقاهرة قبل أن يصبح الأب رئيسا ، والتحق منذ العام 1987 بالعمل فى فرع
بنك " أوف أميركا " فى مصر ، ثم انتقل للعمل مديرا لفرع البنك نفسه فى لندن
، وهناك تكونت الخميرة الأولى لثروته المليارية ، وليس من مصروف الجيب المدرسى (!)
، وهنا قد نذكر باعتراف مبارك الأب نفسه ، وفى حوار صحفى منشور أجراه مكرم محمد أحمد
نقيب الصحفيين المصريين الحالى ورئيس تحرير " المصور" الأسبق ، جرى الحوار
بالقرب من أواسط التسعينيات ، وفيه سأل مكرم عن نية الرئيس لإقحام ولديه علاء وجمال
فى السياسة ، وقتها نفى مبارك ما أشيع عن نيته ، وقال : أن ولديه مشغولان بالبيزنس
، وقال ما هو أوضح عن جمال مبارك بالذات ، قال : إنه يكسب كثيرا من عمله فى بنك
" أوف أميركا " ، وأنه يشترى ديون مصر لصالح البنك ، وضرب مثلا بدين مصرى
لصالح الصين اشتراه جمال مبارك ، وقصة شراء الديون معروفة ، وملخصها أن يقوم وسيط ـ
بنك أو غيره ـ بشراء الدين من صاحبه بنصف قيمته أو أقل ، ثم أن يتسلم أصل الدين كاملا
من المدين ، والمكسب هنا بعشرات الملايين وبمئاتها ، والمدين هنا ـ باعتراف الأب ـ
هو الدولة المصرية ، والتى تورط مسئولوها فى تسهيل مهمة جمال مبارك بشراء الديون ،
أى أن أصل ثروة الابن مشكوك فى مشروعيتها باعتراف الأب نفسه ، وموصومة باستغلال النفوذ
الرئاسى العائلى ، وقد أسس الابن بالخميرة الأولى لثروته غير المشروعة شركة "ميد
انفستمنت " المسجلة فى لندن ، وبرأسمال قدره مائة مليون دولار لا غير ، وبعد سنوات
من عودته إلى مصر ، فقد قدرت "بيزنس ويكلى " ثروة جمال مبارك الشخصية بحوالى
750 مليون دولار ، وهو ما يبدو الآن رقما متواضعا قياسا إلى التضخم الفلكى لثروته ،
فقد دخل أو أدخل إلى مجالس إدارات بنوك أجنبية كبرى كالبنك العربى الأمريكى والبنك
العربى الأفريقى ، ثم كانت القفزة الكبرى بأن أصبح عضوا فى مجلس إدارة مجموعة
"هيرميس " المالية الدولية ، وهذا هو النذر اليسير المعروف من حكاية ثروة
جمال مبارك ، ربما الأخطر فيما يجرى من وراء ستار ، والذى جعله مليارديرا وشريكا من
الباطن لمليارديرات كبار بالقرب من العائلة ، ونحن تتحدى جمال مبارك أن يقدم إقرارا
علنيا بثروته إلى الرأى العام ، وبيان ما إذا كان يدفع ضرائب ، أو أن الضرائب ـ وغيرها
ـ هى التى تنتهى إلى جيبه وإلى حسابات البنوك السرية (!).
الوجه الثانى لطلب محاكمة جمال مبارك ظاهر بغير التباسات ، فليس للابن
ـ الموعود بالتوريث ـ صفة دستورية تشريعية أو تنفيذية إلى الآن ، ومع ذلك فهو يمارس
ـ فعليا ـ صلاحيات تفوق صلاحيات كل الذين لهم صفات ، فهو ينتحل صفة الرئيس أحيانا ،
وينتحل صفة رئيس الوزراء فى أغلب الأحيان ، يذهب إلى خارج البلاد فى زيارات رسمية وشبه
رسمية ، ويترأس اجتماعات يحضرها رئيس الوزراء
والوزراء ، ولا معنى هنا للاحتجاج الساذج بمنصبه الحزبى ، وكونه واحدا من أمناء
العموم المساعدين بالحزب الحاكم ، فالأمين العام للحزب الحاكم نفسه ـ صفوت الشريف ـ
لا يتاح له عشر ما يتاح لجمال مبارك ، والدنيا كلها فى علاقة الصفات الحزبية بالصفات
التنفيذية تختلف مدارسها ، ففى بريطانيا ـ ونظم على مثالها ـ يكون زعيم الحزب الحاكم
هو نفسه رئيس الوزراء ، وفى أمريكا لا صفة تنفيذية تعطى لرئيس الحزب الحاكم ، و لا
يكاد أحد يعرف اسمه ، أما فى مصر فلدينا رجل واحد ، هو نفسه رئيس الحزب الحاكم ورئيس
الجمهورية ورئيس المجلس الأعلى للشرطة ورئيس المجلس الأعلى للقضاة و القائد الأعلى
للقوات المسلحة ، واسمه الآن ـ فيما يعلم الكل ـ هو حسنى مبارك وليس جمال مبارك ، وليس
لأحد آخر فى الحزب الحاكم صفات رسمية أو مجازية ، إلا أن يكون قد جرى تعيينه وزيرا
أو رئيسا للوزراء ، أو رئيسا لمجلس الشعب أو لمجلس الشورى ، ولم يصدر ـ فيما نعلم ـ
أى قرار بتعيين جمال مبارك فى أى منصب تشريعى أو تنفيذى إلى الآن ، لكنه يعمل على طريقة
" ابنى بيساعدنى " التى تحدث عنها مبارك الأب عفويا فى حوار لقناة
" العربية" جرى بثه فى يناير 2005 ، والتى حولت مقام الرئاسة الرفيع إلى
" محل كشرى " ، وخولت لجمال مبارك فرصة انتحال الصفة التى تحلو له ومتى أراد
، فمرة يكون فى وضع الرئيس ، ومرات يكون فى وضع رئيس الوزراء ،ودائما فى وضع
" منتحل الصفات " خروجا على أبسط مبادئ القانون والدستور ، ويقوم بزيارات
رسمية خارج البلاد ، وإلى مهبط الوحى فى " البيت الأبيض " نفسه ، يتحدث الصحفى
الأمريكى الشهير بوب وودوارد فى كتابه " خطة الحرب " عن أول زيارة سرية لجمال
مبارك إلى البيت الأبيض ، وعن لقائه بالرئيس الأمريكى السابق بوش ونائبه ديك تشينى
قبل أسابيع من حرب غزو العراق ، وعن نقله لرسالة من أبيه تعرض استضافة الرئيس العراقى
السابق صدام حسين فى لجوء سياسى للقاهرة ، جرى العرض بغير طلب من صدام ورفضته واشنطن
، وفى 11 و12 مايو 2006 جرت الزيارة السرية الثانية ، ودخل جمال مبارك وقتها من الباب
الخلفى للبيت الأبيض ، والتقى بوش وتشينى وستيفن هادلى وكوندوليزا رايس ، وجرى النقاش
عن الداخل المصرى ، وعن طلب دعم أمريكى لتوريث الرئاسة ، ثم انتقلنا من السر إلى العلن
فى 2009 ، وصحب مبارك الأب ابنه فى زيارته الأخيرة لواشنطن ، وبالتواقت مع لقاء أوباما
فى البيت الأبيض ، أى أنه جرى انتحال صفه الرئيس لجمال مبارك أو نائب الرئيس ، ودون
أن يصدر قرار رسمى إلى الآن .
الوجه الثالث لطلب محاكمة جمال مبارك هو أفدح الوجوه ، فقد صار ـ بالممارسة
الفعلية ـ شريكا فى الرئاسة ، ومنذ أن جعلوه رئيسا لما يسمى " لجنة السياسات
" فى أوائل سنة 2002 ، وانتقل إليه ـ حصريا ـ ملف إدارة الاقتصاد ، ومع ترك ملف
الأمن للرئيس الأب ، وملف الخدمات للرئيسة الأم ، وكان قرار تعويم سعر الجنيه المصرى
ـ فى يناير 2003 ـ أول تجليات الدور الجديد لجمال مبارك ، وقد نزل القرار بسعر صرف
الجنيه المصرى إلى النصف ، ونزل بقيمة الموجودات المصرية كلها إلى النصف ، ثم كان اختيار
أحمد نظيف رئيسا للوزراء ـ فى يوليو 2004 ـ قرارا خالصا لجمال مبارك ، وسيطر رجال جمال
مبارك على المجموعة الوزارية الاقتصادية كلها ، وهو ما يعنى المسئولية الفعلية المباشرة
لجمال مبارك عن قرارات بيع الأصول وشركات القطاع العام ، والتى تدافعت بشدة فى السنوات
الأخيرة ، وانطوت على جرائم إهدار مال عام بمليارات الجنيهات .
وقد نفهم حرص مبارك الأب على البقاء فى الرئاسة ، فهو يعرف أنه لا اختيار
أمامه إن ترك القصر سوى أن ينتقل لقفص الاتهام ، والمطلوب ـ الآن ـ وضع جمال مبارك
فى قفص الاتهام قبل أن يفلت من العقاب بتولى منصب الرئاسة .
تابع كل مقالات
عبد الحليم قنديل على موقع " كفاية"
http://harakamasria.org/
No comments:
Post a Comment