لقد سحق الفساد الذى تعملق بصورة مروعة فى عهد
مبارك كل قيم النزاهة والشفافية وسفه قيم الحكم، وشكل أساسا لتنامى الاحتكارات والمصالح
الفاسدة التى تعتدى على حقوق المستهلكين، والتى تستدعى إصلاحا اقتصاديا وتشريعيا لبناء
بيئة جديدة للتنمية العادلة لا علاقة لها بفساد عصر مبارك واحتكاراته.
أن الممارسات الاحتكارية هى جزء من سياق عام
لممارسات الاستغلال والفساد التى أُرسيت قواعدها الاستغلالية فى عصر مبارك. وهذا الحكم
لا يتضمن اى تجن على ذلك العهد البائس. وإذا كانت الأنباء المنشورة التى خرجت بشأن
التسوية التى يجرى إعدادها بين حسين سالم، والنيابة العامة تشير إلى استعداده للتصالح
مقابل سداد 22.5 مليار جنيه، فإن ذلك يعطى مؤشرا على حجم ما حصل عليه ويتصالح بشأنه
وهو لم يكن أكثر من موظف عام لدى جهة سيادية قبل أن يتحول لرجل أعمال استفاد بصورة
هائلة من قربه من رأس السلطة فى عهد مبارك.
كما أن جزءا مهما من تلك الاحتكارات تأسس من
خلال جبال الأموال التى حصل عليها بعض رجال أعمال الحزب الوطنى المنحل من منحهم أراضى
التنمية الزراعية والصناعية بدون حساب أو معايير عادلة، ودون محاسبة على توظيفها أو
الاتجار فيها، وهى قضية تحتاج وحدها لمقالات قادمة. كما تأسس مناخ الفساد نفسه وجزء
كبير من أموال من تورطوا فيه من خلال برنامج الخصخصة الذى اهدر نظام مبارك من خلاله
ما بنته الاجيال والحكومات السابقة بثمن بخس. ولم تكن مصادفة او عدوانا على التعاقدات،
أن يحكم القضاء المصرى باستعادة الدولة لبعض الشركات التى كان الفساد فى عقود بيعها
أى خصخصتها ظاهرا وجليا. وهذا الأمر يدعونا لتأمل بعض صفقات الخصخصة وما أهدرته من
أصول مصر وحقوق شعبها، فضلا عن إخراجها لمئات الآلاف من العاملين إلى صفوف العاطلين،
وما أدت إليه من تدمير لبعض الصناعات الاستراتيجية مثل صناعة المراجل البخارية.
خصخصة مبارك.. الفساد وتوليد الاحتكار
عندما طرحت فكرة الخصخصة فى بداياتها الأولى
فى مصر ، كان المستهدف بالخصخصة وفقا للمطروح آنذاك هو الشركات العامة الخاسرة باعتبار
أن الخسارة تنم عن سوء الإدارة العامة وبالتالى فإن بيعها للقطاع الخاص الساعى لتحقيق
أقصى ربح دائما يمكن أن يحولها إلى شركات رابحة. وكان ذلك التصور للخصخصة وسيلة لحشد
التأييد العام لفكرة الخصخصة. لكن الذى تم بيعه فعليا هو أفضل الشركات الرابحة.
كما تم استخدام عائد الخصخصة وبيع رخصة الشبكة
الثالثة للتليفون المحمول لتضخيم حجم تدفقات الاستثمار المباشر فى عهد حكومة نظيف.
كما أن الاستثمارات فى التنقيب والاستكشاف والاستخراج للنفط والغاز والتى لم تكن تحتسب
ضمن تلك الاستثمارات تم احتسابها فى عهد تلك الحكومة لتضخيم الرقم والإيهام بتحقيق
إنجاز كبير. ومن المتعارف عليه أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى تشترى أصولا
قائمة بالفعل فى أى دولة هى استثمارات زائفة لأنها لم تضف أصولا للاقتصاد وإنما تدفقات
مالية قد لا تستخدم فى إنشاء أصول جديدة وهو الأمر المرجح لحكومات مبارك المتعاقبة
التى باعت الأصول التى بنتها الأجيال والحكومات السابقة، حتى تمول إنفاقها الجارى لتغطية
عجزها عن تطوير النشاط الاقتصادى وتمويل الإنفاق العام من خلال الإيرادات الناتجة عن
هذا النشاط. وحتى لا يكون الأمر مجرد إشارة لسوء إدارة عملية الخصخصة، سنعرض لبعض صفقاتها
لنترك الحكم للقراء على ما فعله مبارك بأصول مصر ومنجزات شعبها وحكوماتها السابقة عليه...
1.
صفقة بيع شركة النصر للغلايات (المراجل البخارية) :
تعتبر تلك الصفقة علامة مميزة على الفساد الذى
يمكن أن يكتنف عملية الخصخصة. وتبلغ المساحة المقامة عليها الشركة 31 فدانا أى أكثر
من 130 ألف متر مربع، وتقع الشركة فى منطقة منيل شيحة على النيل مباشرة قبالة حى المعادى
على الجهة الأخرى من النيل. وقد قدمت خمسة عروض لشراء هذه الشركة عند عرضها للبيع،
وكل العروض قدمت من شركات أجنبية تنتمى إلى الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وإيطاليا
واليابان.
وكانت الشركة قبل خصخصتها تضم 1100 عامل ، وكانت
تنتج أوعية الضغط من طن واحد إلى 12 طنا وبسعات تصل إلى 1300 طن بخار فى الساعة ومراجل
توليد الكهرباء وأوعية غازات سائلة ووحدات تنقية مياه الشرب وتحلية مياه البحر وغيرها
من المنتجات. وكانت الشركة تحقق أرباحا حتى العام المالى 1991 ، قبل أن تدخل فى توسعات
استثمارية حولتها إلى شركة مديونة وخاسرة قبل أن يتم بيعها. وربما كان دفع هذه الشركة
الى هاوية الديون والخسارة عملا متعمدا لتبرير بيعها، لأنه ليس هناك أى منطق فى دخول
شركة سيتم بيعها فى استثمارات جديدة توقعها فى أزمة مديونية. لكن «تخسير» الشركات الرابحة
والمهمة هو سلوك تلجأ إليه الجهات المسئولة عن خصخصة القطاع العام فى العديد من البلدان
النامية لتبرير بيع شركات استراتيجية تقوم بدور حيوى فى الاقتصاد أمام المعارضين لهذا
البيع. وللعلم فإن الشركة قبل خصخصتها كانت تتبع الشركة القابضة للصناعات الهندسية
التى كان يرأس مجلس إدارتها عبد الوهاب الحباك الذى حوكم بعد ذلك بعد أن أدت خلافات
عائلية خاصة بعلاقته بزوجتيه الى كشف الفساد الذى تضمنته تلك الصفقة.
وقد أسندت عملية تقييم ثمن الشركة الى بيت خبرة
أمريكى يتبع شركة «بكتل» العقارية العملاقة ويمثله محام مصرى شهير. وتم تقدير ثمن الشركة
من قبل بيت الخبرة المذكور بما يتراوح بين 16 و 24 مليون دولار. وهو سعر يقل كثيرا
عن سعر الأرض المقامة عليها الشركة لو تم تقييمها كأرض بناء حيث يبلغ هذا السعر ما
يوازى نحو 100 مليون دولار أو نحو 330 مليون جنيه آنذاك.
وفى 13/12/1994 قام مجلس إدارة الشركة بالحصول
على موافقة الجمعية العامة لشركة الصناعات الهندسية ببيع الأصول الثابتة للشركة بمبلغ
11 مليون دولار، وبيع المخزون بمبلغ 6 ملايين دولار بحيث تصبح القيمة الإجمالية للشركة
ومخزونها 17 مليون دولار. وتم البيع إلى شركة أمريكية كندية هى شركة «بابكو اند ويلكوكس»
دون التزام الشركة المشترية بسداد الديون والضرائب المستحقة على شركة النصر للغلايات.
وبعد خصم تلك المستحقات ، أصبح المتبقى من ثمن الشركة نحو 2.5 مليون جنيه مصرى أى أقل
من ثلاثة أرباع مليون دولار وبعد عملية البيع تم اسناد عملية محطة كهرباء الكريمات
بقيمة 600 مليون دولار الى الشركة الأمريكية الكندية المشترية لشركة المراجل البخارية
المصرية!!
ولأن الفساد اتخذ أبعاداً درامية فى تلك الصفقة
فإن الأمر انتهى بإيقاف إنتاج الغلايات العملاقة التى تعتمد عليها محطات الكهرباء ،
فقد وجدت الشركة الأمريكية الكندية التى اشترت الشركة أن مصلحتها تقتضى أن تشترى مصر
المراجل البخارية من الخارج، بدلا من إنتاجها محليا أما العمالة فإن صفقة البيع لم
تضمن حمايتها إلا لثلاثة أعوام. وبذلك كسبت الشركة المشترية السوق المصرية وأرض الشركة
ودمرت واحدة من أهم صناعاتنا الوطنية. وإذا مضت مصر قدما فى برنامجها النووى السلمى
فإنها ستكون مضطرة إلى الاستيراد الغلايات العملاقة أو بناء مصنع جديد بعشرات أضعاف
سعر البيع المزرى لشركة المراجل البخارية التى كانت تنتج مثل تلك الغلايات.
2.
خصخصة شركة الزجاج المسطح :
بيعت الشركة المصرية للزجاج المسطح عن طريق
عروض شراء من العديد من الشركات الأجنبية، علما بأن المالك الرئيسى لهذه الشركة هو
القطاع العام، الذى كان يملك أكثر من 70% من أسهمها متمثلة فى ملكيات شركة الصناعات
المعدنية (12.5%)، بنك الاستثمار القومى (11.4%)، بنك التنمية الصناعية (10%)، شركة
التأمين الأهلية (8.80%)، الهيئة المصرية العامة للبترول (8.6%) ، البنك الأهلى
(7.4%)، شركة الشرق للتأمين (6.4%) ، بنك الإسكندرية (5.0%). وتملك شركة «بلكنجتون
انترناشيونال هولدنج بى فى» الهولندية المملوكة بالكامل لشركة «بلكنجتون بى إل سى»
البريطانية، (10% ) من أسهم الشركة المصرية للزجاج المسطح. ويبلغ رأسمالها المفوع
150 مليون جنيه ، بينما بلغت حقوق المساهمين فى نهاية سبتمبر 2001 ، نحو 183 مليون
جنيه(راجع الهيئة العامة لسوق المال ، الشركات المالية-نظام التحليل المالى ، قائمة
المركز المالى للشركة فى 30/9/2001).
أما بالنسبة لإجمالى استثمارات الشركة فإنها
بلغت 600 مليون جنيه وقد بلغت قيمة الأرباح الإجمالية للشركة المصرية للزجاج المسطح
فى الاثنى عشر شهرا المنتهية فى 30/9/2001 ، نحو 50.3 مليون جنيه بنسبة 33.5% من رأسمالها
المدفوع البالغ 150 مليون جنيه ، ونحو 27.5% من إجمالى حقوق المساهمين التى بلغت نحو
183 مليون جنيه فى نهاية سبتمبر من العام الماضى، ونحو 8.3% من إجمالى قيمة الاستثمارات
البالغة نحو 600 مليون جنيه. أما الأرباح الصافية فقد بلغت 27.1 مليون جنيه فى الاثنى
عشر شهرا المنتهية فى نهاية سبتمبر 2001 ، بما يوازى 18.1% من إجمالى رأس المال المدفوع،
ونحو 14.8% من إجمالى حقوق المساهمين ، ونحو 4.5% من إجمالى قيمة استثماراتها.(بيانات
الأرباح الإجمالية والصافية مأخوذة من: (راجع ، الهيئة العامة لسوق المال ، الشركات
المالية-نظام التحليل المالى، قائمة المركز المالى للشركة فى 30/9/2001). ورغم أن الفارق
بين إجمالى الأرباح وصافى الأرباح يعد ضخما ويحتاج لمراجعة بنود المصروفات العادية
وغير العادية، إلا أن الشركة تظل متميزة الأداء.
وخلال عملية المنافسة بين الشركات الراغبة فى
شراء الشركة المصرية للزجاج المسطح، قدمت تلك الشركات أسعارا منخفضة كثيرا عن القيمة
الحقيقية للشركة. وكانت شركة «جارديان» الأمريكية هى أول من تقدم بعرض للشراء، وهذه
الشركة مملوكة ليهودى صهيونى (دافيدسون) وتقدم سنويا تبرعات ضخمة لإسرائيل، أى انها
شركة معادية لمصر والعرب عموما. وقد قدمت الشركة فى عرضها الأول سعرا متدنيا للغاية
للسهم، ثم عرضت شركة بلكنجتون شراء السهم بـ160 جنيها للسهم، مما دفع شركة «جارديان»
الأمريكية لرفع عرضها إلى 169 جنيها للسهم. ومقابل ذلك العرض الأمريكى قامت شركة بلكنجتون
بتقديم عرض منشور صحفيا فى 13/5/2002(جريدة الأهرام) لشراء السهم بسعر 171 جنيها ،
ثم قدمت عرضا جديدا فى 20/5/2002(جريدة الأهرام) لشراء السهم بسعر 175 جنيها على أن
تشترى 70% على الأقل من أسهم الشركة تضاف إلى الـ 10% التى تملكها بالفعل لتصبح مالكة
لنسبة 80% من أسهم الشركة على الأقل.
ووفقا لأعلى سعر ، فإن ثمن الشركة بأكملها يصبح
306.3 مليون جنيه منها 30.6 مليون جنيه قيمة الحصة القائمة فعلا لشركة بلكنجتون ، ليتبقى
275.7 مليون جنيه، منها نحو 214.2 مليون جنيه حصة الشركات العامة. وقد نجحت الحملة
التى تم تحريكها من وزارة قطاع الأعمال نفسها ومن رئيس الوزراء آنذاك الدكتور عاطف
عبيد، فى إبعاد الشركة الأمريكية الصهيونية لتذهب الصفقة إلى مستثمر عربى كانت تربطه
علاقات عمل مع رئيس الوزراء الأسبق، وفى الحالتين هناك اهدار للمال العام.
ومن الجلى أن سعر البيع لا علاقة له بقيمة الاستثمارات
أو أداء الشركة. وإذا حاولت مصر تطوير استغلال الطاقة الشمسية، فإنها ستدرك حجم خسائرها
من بيع تلك الشركة التى كان من الممكن أن تكون الذراع الرئيسية لإنتاج المرايا المستخدمة
فى محطات الطاقة الشمسية. وإن كان من الضرورى الإشارة إلى أن توافر الرمل الزجاجى العالى
النوعية فى جنوب غرب سيناء، يمكن أن يشكل أساسا لبناء صناعة جديدة للزجاج والمرايا
سواء تم ذلك من خلال الدولة مع التمويل شعبيا على غرار ما تم فى تمويل مشروع قناة السويس،
أو باكتتاب عام لبناء شركة يملكها حملة الأسهم.
ونفس الإهدار للمال العام ولما بنته الحكومات
والأجيال السابقة، حدث مع الشركات العامة العاملة فى مجال الأسمنت والحديد والفنادق
والمياه الغازية والبنوك والمصرية لخدمات التليفون المحمول حيث تمت خصخصتها فى صفقات
مهدرة للمال العام بصورة مروعة وكتبت عنها فى حينه ونشرت تحليلا لصفقات البيع فى أكثر
من كتاب، لعل أبرزها كتابا «الانهيار الاقتصادى فى عصر مبارك... حقائق الفساد والبطالة
والركود والغلاء» والذى صدر عام 2005، وقام المجلس الأعلى للثقافة بإعادة إصداره مع
فصل إضافى بعد الثورة. وكانت عمليات التقييم نفسها تتم بصورة فاسدة منهجيا من خلال
تقييم سعر متر الأرض فى المشروع العام بسعر الأرض فى أقرب منطقة صناعية، مما جعل شركة
مثل طنطا للكتان والتى تملك أرضا لا تقل قيمتها وقت بيعها عن مليار جنيه تباع كلها
بـ 83 مليون جنيه بالتقسيط!!
3.
وأختم بلمحة خاطفة عن بيع المصرية لخدمات المحمول
الذى تم مقابل 1.7 مليار جنيه مقابل الشركة ومحاطاتها وعدد الاشتراكات والوضع الاحتكارى
المنفرد بالسوق، بينما عرضت وزيرة الشئون الاجتماعية آنذاك د. ميرفت التلاوى شراءها
بمليارى جنيه من اموال التأمينات لمصلحة أرباب المعاشات، ولم ينظر فى طلبها. وبعد ستة
أعوام تم بيع مجرد رخصة شبكة المحمول الثالثة بـ 16 مليار جنيه، وهو مؤشر على القيمة
الحقيقية التى أهدرت لدى بيع الشركة الأولى بدون أى مبرر لأنها كانت تحقق أرباحا هائلة،
فضلا عن أن الطبيعة الإستراتيجية والأمنية لقطاع الاتصالات كانت تفرض عدم خصخصة الشركة.
.jpg)
No comments:
Post a Comment