الساعة
دقت واحدة بعد منتصف ليل برلين في يوم 9 نوفمبر 1938 ،كل نشرات الأخبار،البرامج
الاذاعية،الأغاني الحماسية توقفت.تنبيه لبيان هام من وزير الدعاية جوبلس.يطلع
البيان بعد 10 دقائق من التنويه .يقول الوزير في 10 عبارات مقتضبة أن اليهود
بيجهزوا لمؤامرة مريبة علي النظام وبيهددوا وحدة الأمة الألمانية.جوبلس استخدم
العبارة الصح،المؤامرة، وكان عارف النتائج مُقدمًا..
مئات
الاف من الألمان خرجوا غاضبين بعد البيان بدقائق،كل واحد في ايده قطعة قماش ومعاه
ازازة فيها جاز.والهدف واحد حرق محلات اليهود ومبانيهم السكنية،وقتلهم ان
تيسر.وبدأت من لحظتها ولمدة يومين 9 و10 نوفمبر واحدة من أبشع عمليات التدمير،ليلة
الكريستال Kristallnacht،أسفرت عن قتل 100 يهودي
ألماني،وتدمير 6000 بيت و 3600 محل،وخسائر اقتصادية قُدرت بمليار مارك..
يمكن
دي مكنتش أول مرة يظهر فيها الشعب الألماني حماسه لخطاب هتلر العنصري.أول ما تولي
الحكم نادي بحرق كل الكتب التي تمس بالروح الألمانية النقية،فتطوع طلبة من أرقي
الجامعات تأثرًا بخطابه في 10 مايو 1933 لجمع 20 الف كتاب في احد ميادين برلين
لكتاب بارزين زي ليون فويشتفانجر وكلاوس مان وهيرمان هسه،وحرقوها وسط صفارات
البهجة والسعادة من 200 الف ألماني.وبعدها بسنة خرج مئات الاف الألمان في حشود
مبتهجة تؤدي التحية النازية لتأييد ما حدث في ليلة السكاكين الطويلة Nacht der langen Messer واللي قتل فيها هتلر 85 من
رفاقه ،واعتقل 1200 من قادة المعارضة قبل اعدامهم..
ليلة
السكاكين الطويلة،ومن قبلها حرق الاف الكتب كانوا اشارتين مرعبتين عن مدي تغلغل
الأفكار النازية في صفوف الألمان،لكن كل ده لا يقارن بليلة الكريستال لأنها كانت
أول مرة يقتل فيها ألمان عاديين جيرانهم وأصدقائهم لمجرد اختلاف الديانة.وكانت
نقطة الفصل..هتلر والشعب شئ واحد،واستئصال أفكاره من المجتمع أصبحت عسيرة ولن تتم
الا باستئصال الشعب نفسه او الدخول في دوامة تغيير هتستمر قرون..
قناعة
أصبحت أكثر وضوح مع الحادثة الأكثر بشاعة معنويًا.حادثة مبارة الموت سنة 1942.هتلر
أعلن بدء مرحلة جديدة في استراتيجيته التوسعية،هدفها الأول غزو مساحات واسعة وطرد
السكان الأصليين واعادة توطين الألمان.عشان يضمن السيطرة علي الموارد الطبيعية
وامداد قوات بلاده بالمواد الغذائية.استراتيجية النظام الجديد Neue Ordnung بدأت مع غزو بولندا سنة 1938 ومن بعدها الاتحاد السوفيتي سنة
1941.دخل الألمان أوكرانيا واستولوا عليها في يونيو 1941 واحكموا سيطرتهم علي
القمح اهم مصادر الثروة الأوكرانية،ووطنوا ما بين 80 الي 100 الف ألماني..
الألمان
كانوا عايزين شوية ترفيه،فقررت القوات النازية تنظيم مبارة كرة قدم في يوم 9 أغسطس
1942 بين فريق اف سي ستارت الأوكراني ،وفريق فلاكايلف التابع لسلاح المدفعية
الألماني في حضور 25 الف متفرج أغلبهم ألمان كانوا منتظرين فوز فريق بلدهم.انتهي الشوط
الأول بفوز الفريق الأوكراني 2-صفر،وفي الاستراحة أمر قائد المدفعية باطلاق مئات
الاعيرة النارية في الهواء،لاخافة الفريق الاوكراني،ونزل رئيس الشرطة السرية
الألمانية للاعبي الفريق الاوكراني في الاستراحة،وامرهم الهزيمة امام أبناء
بلده،رفضوا،نزلوا الشوط الثاني وكسبوا الألمان 5-3..
الأمر
كان مفترض انه ماتش كورة والسلام.لكن شعارات الجمهور الألماني في المدرجات اللي
مكنش مصدق ازاي جنس سلافي أقل منه يكسبه ولو في لعبة،بالموت للخونة،دفعت الجنود
النازيين لاعدام 4 من لاعبي الفريق الأوكراني في ارض الملعب بعد تعذيبهم منهم نجم
الفريق نيوكولاي خوركوف علي مرأي ومسمع من الجماهير الألمانية السعيدة،وبعدها
بأيام تطبيق اجراءات عقابية قاسية في حق سكان كييف،بس عشان تجرأوا وكسبوا الألمان
في ماتش..
محدش
يقدر ينسي بحال مرافعة أدولف أيشمان قائد قوات الترحيلات Räumungsangelgenheiten في دفاعه عن نفسه أمام الكنيست الاسرائيلي سنة 1962.بعد ما اعتقله
الموساد في العاصمة الأرجنتيية بيونس ايرس متخفيًا وهو احد كبار المطلوبين ومسئول
عن ترحيل 440 الف يهودي مجري الي داخاو وأوشفيتس.الراجل كان واثق من نفسه،هادئ
النبرة،وهو بيقول أنه كان مكلف بمهمة شعبية،وأن الألمان زعلوا منه فعلًا، بس مش
عشان قتل وحرق اليهود ومعهم بعض الزنوج والغجر والمعوقين،لأ عشان الضباط
المتهاونين كانوا بيرموا الجثث المتحللة في الشوارع أحيانًا،والرائحة كانت بتضايق
الناس،وهو تدارك الخطأ ده..القتل بهدوء عشان أهل بلده ميتضايقوش..
اعترافات
أيشمان علي قدر وقاحتها،لكنها كانت عنوان واضح لطبيعة الشعب الألماني ومدي همجيته
ودمويته،طول فترةحكم هتلر.اقتل معارضيك السياسين واحنا هنرقص علي جثثهم،احرق أصحاب
الديانات الأخري وذوي العاهات واحنا هنساعدك،بس مترميش الجثث في الشارع عشان
الرائحة،العب ماتش كورة مع الأوكران ولو خسروا عذبهم واقتلهم واحنا هنشجع من
المدرجات ونصفق..الشعب الألماني في نهاية حكم هتلر كان وحش غير مروض،مستعد يفتك
بالبشرية كلها لأتفه الأسباب..
انتهت
الحرب العالمية الثانية وبدأ العالم يفوق علي حقيقة بشعة.المشكلة مش بس هتلر ولا
نظام حكمه وكبار قادته العسكريين،اللي اعدمناهم في محاكمات نورمبرج.المشكلة في
الألمان نفسهم اللي بيقدسوا هتلر،وبيعتنقوا أفكاره وكانت المهمة الأصعب اعادة
تشكيل وعي الشعب الألماني..وأهم ركن فيها الثقافة والتربية..
المستشار
الألماني الأول بعد سقوط هتلر كونراد أديناور أنتج سياسة واضحة أسماها التعامل مع
الماضي Vergangenheitsbewältigung،منع كل كتب رموز هتلر الثقافية
من النشر،بدأ نظام تعليمي جديد قوامه الحرية والمواطنة،أعاد نشر المؤلفات الممنوعة
لكبار الأدباء زي هرمان هسه،وتقريرها علي الطلبة في المرحلة الثانوية،زي رواية تحت
العجلة Unterm Rad اللي بتعلم الناس المناقشة
والتحرر من قيود الطاعة لأي رمز،اعاد الاعتبار لرموز المقاومة الألمانية زي صوفي
شول اللي تحدت هتلر في عقر داره واعدمها هي وكل رفاقها في خلية الوردة البيضاء Die weiße Rose،أعاد انتاج المواد الموسيقية الشعبية ومحو كل ما يتعلق بالتراث
الموسيقي الهتلري..
والأهم
من كل ده غير مفهوم الوطنية لأنه كان مدرك أن كل الجرائم اللي ارتكبها أبناء شعبه
كانت من منطلق واحد،الوطنية والشعور بالمؤامرة اللي غرسه فيهم هتلر،ونمو شعور
الثأر يوم ورا يوم من الجيران والأعداء علي حد سواء وصولًا لعمليات الابادة.احنا
مش أرقي شعب ولا أفضل جنس،قوميتنا لا تعطينا حق التميز،وحب البلد لا يتم التعبير
عنه بشعارات رنانة وعبارات عنصرية تحض علي كره الآخر أو استباحة دمه وممتلكاته،ولو
كان في طريقة عايز تثبت بها حُبك لبلدك وتستعيد ريادتها هتكون الأقتصاد،العمل
والانتاج والاختراع..ربط الوطنية بالتميز الاقتصادي،وتفريغها من الشوفينية وأساطير
السمو،هو ما انتج شعور طاغي برغبة في الانتاج وصولًا للمعجزة الاقتصادية من منتصف
الخمسينات..
من
75 سنة بالتمام والكمال أشعلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية بغزو بولندا وما نتج
عنها من 60 مليون قتيل..الألمان لاينظروا للتاريخ بأسي وبحزن وهما بيسترجعوا
مسئولية أجدادهم عن الدمار،بقدر ما يتملكهم شعور بالفخر بكل ما انجزوه من تغيير..
محدش
كان يتوقع أن الشعب اللي عاش أكبر عملية غسيل مخ في التاريخ،يتحول في غضون 20 سنة
بعد نهاية الحرب لشعب يخرج في مظاهرات 1968 يطالب باستكمال معاقبة النازيين بعد
تراخي السلطة في اجتثاثهم السياسي والسماح لهم بتكوين احزاب زي SRP,DPR.ولا أنهم بعد 40 سنة بس،يقدروا ينتشلوا اخواتهم في المانيا
الشرقية من التربية الشيوعية الأمنية السلطوية الباطشة ويدمجوهم في النظام السياسي
القائم علي الحرية والمواطنة..
ولا
حد كان يصدق أن الشعب اللي مجد الطبيب يورجن فيشر اللي قتل بدم بارد 20 ألف طفل
أفريقي أحضرهم من المستعمرة الألمانية السابقة في نامبيا لاجراء تجارب التبييض علي
وجوهم،يوصل كارمبا ديابي،نائب ألماني أسود من أصول سنغالية لمقعد البرلمان في
2013،أو يسمح بوصول ألمان من أصول تركية وعربية لمناصب حكومية رفيعة زي اوزدجوز
وزيرة شئون الاندماج،والفلسطينية سوسن شبلي المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية
الألمانية..
أن
الشعب اللي كان بيعادي الأجانب وينظر لهم كبشر أدني،ويستبيح قتلهم عشان كسبوه في
ماتش كورة،ينظم مجموعة من شبابه في منظمة الجمال السياسي Politische Schönheit خدعة ظريفة بتزوير موقع مشابه لوزارة الأسرة الألمانية والادعاء
بتخطيطها لقبول 5000 طفل سوري من اللاجئين بعد استضافتها 12 الف في العامين
الماضيين،وينجحوا في احراج حكومتهم بعد حشد دعم شعبي،وتبرع الألمان باستضافة
الأطفال.وان أفراده العاديين قبل النخبة يقفوا في وجه أطروحات كتاب عنصري زي كتاب
‘‘ألمانيا تلغي نفسها‘‘ لتيللو زاراستين،ينادي فيه بتقليل عدد العرب والمسلمين..
ذكري
بداية الحرب العالمية الثانية،ليست مجرد ذكري يُجدد فيها الألمان ندمهم،وبقدر أكبر
يستعيدوا فخرهم بقدرتهم علي تجاوز ماضيهم..لأ..ذكري تدحض معها المقولة الشائعة بأن
الشعوب التي عاشت تحت أنظمة سلطوية،وتعاني من فقر وجهل ومرض،غير قابلة لاستيعاب مفردات
الديمقراطية..
لم
يمتلك شعب هذا القدر من الأفكار التدميرية قدر ما امتلك الألمان،ولم يخرج شعب من
حرب،مدُمر وفقير ومريض وجاهل ،كما خرج الألمان بعد الحرب العالمية الثانية.ومع ذلك
في عز ظروف الفقر والروح لقومية التدميرية،استطاع الألمان بفضل ارادة سياسية وحكمة
رجل اسمه كونراد أديناور في تجاوز جُل ما سبق،ودمقرطة المجتمع الالماني،علي امل
تجاوز التربية النازية في نصف قرن،علي أقل تقدير،فكان الانجاز بإنتاج جيل جديد في
ظرف 20 سنة غير وجه ألمانيا وأوروبا والعالم..
التجربة
الألمانية في 20 عام بعد انتهاء الحرب،من النازية الي الديمقراطية،من الاقصاء الي
الاستيعاب،من أمة الجنس الآري إلي أمة الثراء والتنوع الهوياتي،من دمار وخراب ساحق
إلي دولة صناعية رائدة،خير شاهد علي حقيقة بديهية..
غياب
الثقافة الديمقراطية،لم يكن يومًا عائقًا أمام بناء مجتمع ديمقراطي،وانتشار الجهل
والفقر والمرض لم يكن يومًا مبررًا لمصادرة إرادات البشر..فقط هو غياب الإرادة
السياسية في تعديل المسار،والإصرار علي التحجج بكل ما سبق..!!
No comments:
Post a Comment