بين الحديث الذى قاله نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابته على ورقة، كان قد مر نحو مئة عام!
كاد القرن الأول الهجرى ينتهى، ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره بجمع الحديث وتدوينه، بل تركوه موكولا إلى حفظ العلماء والرواة وضبطهم.
وفى العام التاسع والتسعين للهجرة تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، خلافة المسلمين، فنظر إلى الأحوال والظروف التى تمر بها الأمة، فرأى أن عليه البدء بكتابة الحديث وتدوينه حفظا له من الضياع والتحريف، فكتب إلى عُمَّاله ووُلاته يأمرهم بذلك، حيث أرسل إلى أبى بكر بن حزم عامله وقاضيه على المدينة قائلا له: «انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم (انتهاء العلم) وذهاب العلماء»، وطلب منه أن يكتب ما عند عَمْرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبى بكر، وكتب إلى علماء المسلمين فى الأمصار المختلفة «انظروا إلى حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجمعوه»، وكان ممن كتب إليهم الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام المتوفى سنة 124هـ، حيث استجاب لطلب عمر بن عبد العزيز فجمع حديث أهل المدينة وقدمه له، فبعث عمر إلى كل أرضٍ دفترا من دفاتره، وكانت هذه هى المحاولة الأولى لجمع الحديث وتدوينه بشمول واستقصاء، وكان تدوين الإمام الزهرى للسنة عبارة عن جمع ما سمعه من أحاديث الصحابة من غير تبويب على أبواب العلم، وربما كان مختلطا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وهذا ما تقتضيه طبيعة البُداءة فى كل أمر جديد، وبذلك مهد الإمام الزهرى الطريق لمن أعقبه من العلماء والمصنّفين، ووضع حجر الأساس فى تدوين السنة فى كتب خاصة.
ثم نشطت حركة التدوين بعد ذلك، وأخذت فى التطور والازدهار، وتعاون الأئمة والعلماء فى مختلف الأمصار، وكانت طريقتهم فى التدوين هى جمع أحاديث كل باب من أبواب العلم على حدة، ثم ضم هذه الأبواب بعضها إلى بعض فى مصنَّف واحد، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين، لذلك حملت المصنفات الأولى فى هذا الزمن عناوين مثل «مصنَّف» و«موطَّأ» و«جامع». وشملت مع الأحاديث النبوية دون تحقيقها وقتها أقوال وأحكام الصحابة والتابعين!
ثم جاء القرن الثالث فحدث طور آخر من أطوار تدوين السنة تجلى فى إفراد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتصنيف دون غيره من أقوال الصحابة والتابعين، فأُلفت المسانيد التى جمعت أحاديث كل صحابى على حدة، من غير مراعاة لوحدة الموضوع، كمسند الإمام أحمد، ومسند إسحاق بن راهَوَيْهِ، ومسند عثمان بن أبى شيبة، وغيرها من المسانيد، ولم تقتصر هذه المسانيد على جمع الحديث الصحيح بل احتوت على الصحيح وغيره، مما جعل الإفادة منها والوقوف على أحاديث مسألة معينة من الصعوبة بمكان إلا على أئمة هذا الشأن، خصوصا أنها لم ترتَّب على أبواب الفقه، مما دفع إمام المحدِّثين فى عصره محمد بن إسماعيل البخارى إلى أن يذهب بالتأليف مذهبا جديدا اقتصر فيه على الحديث الصحيح فحسب دون ما عداه، فألّف كتابه الجامع الصحيح المشهور بـ«صحيح البخارى»، وجرى على منواله معاصره وتلميذه الإمام مسلم فألف صحيحه المشهور بـ«صحيح مسلم»، وقد رتبا صحيحيهما على أبواب الفقه، أى أن الشكل الحقيقى لكتابة الحديث النبوى والتحقق من صحته ظهر بعد أكثر من مئتَى عام من البعثة النبوية، وقد اعتبر العلماء القرن الثالث الهجرى أزهى عصور السنة وأسعدها بالجمع والتدوين، ففيه دُونت الكتب الستة التى اعتمدتها الأمة فى ما بعد، وفيه ظهر أئمة الحديث وجهابذته، وبانتهاء هذا القرن كاد ينتهى عصر الجمع والابتكار فى التأليف، فقد اقتصر دور العلماء فى القرون التالية على الاختصار والتهذيب والترتيب، والاستدراك والتعقيب.
نحن إذن نعيش على عطاء القرن الثالث الهجرى، فهل هناك أى جديد أو عطاء فكرى فى القرن الخامس عشر الهجرى؟ أم أن مرور اثنى عشر قرنا لم يترك بصمته على العقل المسلم بجديد أبدا؟!
No comments:
Post a Comment