Wednesday, October 26, 2011

جمال البنا يكتب 26/10/2011


طبقاً للتاريخ القديم ظهرت مصر طوال ألفى عام وهى أقوى دولة فى المنطقة، وتمتد حدودها شمالاً لتشمل الشام، وجنوباً لتضم السودان، وتلحق بها الديار المقدسة ــ الحجاز ــ وحدث هذا قبل أن تبدأ الغزوات على مصر وتجعلها دولة مستعمرة محتلة، حتى مشارف العصر الحديث عندما ظهر محمد على، رجل الدولة الكبير، الذى نهض بمصر بعد أن أنهكتها الحملة الفرنسية وحكم المماليك الفاسد، واستطاع أن يصعد بها إلى حدودها القديمة بفضل تنازلات حصل عليها من الخليفة العثمانى وخدمات قدمها وحروب قام بها نيابة عن الدولة، وانتصر فيها
ابنه إبراهيم على اليونان وعلى الحجاز
وأصبحت مصر الدولة الثانية فى العالم فى بعض المجالات، والخامسة أو السادسة فى مجالات أخرى، حتى تنبهت بريطانيا إلى الدلالة الكبرى لهذه النهضة، فتعاونت الدول الأوروبية كلها فى حرب الأسطول المصرى وانتصرت عليه فى نافارين، واضطر محمد على فى النهاية للتسليم لشروط الحلفاء، وبذلك أصبحت حدود مصر الشمالية على ما هى عليه الآن بينما تصل حدودها الجنوبية إلى منابع النيل، وواصلت بريطانيا كيدها لمصر حتى استطاعت سنة ١٨٨٢م أن تحتلها بحجة حماية الخديو.
 بعد هذا الاحتلال بخمسين عاماً بدأت بذور نهضة جديدة تظهر، فقد حل بمصر الثورى العظيم جمال الأفغانى الذى قيل عنه إنه كان «داعية الجامعة الإسلامية»، والحقيقة أنه كان يريد تحقيق النهضة فى أى دولة إسلامية تصلح لذلك، وبمجرد أن ينجح المشروع فى هذه الدولة ستمتد آثاره إلى جيرانه وتبدأ نهضة المنطقة كلها، وقد اختار مصر وآثرها على إيران ــ لأن أوضاعها تجعلها أصلح من إيران، وظل فيها ثمانى سنوات كاملة وهو يغرس بذور النهضة، حتى تنبه له الإنجليز ومارسوا نفوذهم فأخرجوه بسرعة.
وكانت من آثار جمال الأفغانى فكرة الدستور ومقاومة المحتل، وحول هذه المطالب ظهر عرابى.. هذا الضابط الذى ترقى من تحت السلاح، أى لم يدخل الكلية الحربية ــ والذى كان مثالاً حقيقياً للفلاح، فقام قومته وجمع الجيش وجمع الشعب فى ميدان عابدين ٩ سبتمبر ١٨٨١م، واستجاب الخديو بعد أن رأى حرسه ضمن المتظاهرين ورأى الشعب وراء الجيش وسقطت الوزارة وعين شريف باشا ووضع الدستور الموءود سنة ١٨٨٢م الذى لم ير النور، لأن الاحتلال البريطانى وأده، بعد أن كتبه شريف باشا.
ومرت سنوات الاحتلال كئيبة مظلمة حتى قامت الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م فوضعت بريطانيا يدها على كل موارد وثروات البلاد وسخرتها للمجهود الحربى البريطانى، بما فى ذلك الذهب الذى كان مودعاً فى البنك الأهلى وتشغيل الألوف من الشبان فى الفرقة التى عملت على الحدود، فلما انتهت الحرب ورفضت السلطات البريطانية أن تسمح لوفد من مصر بالسفر إلى باريس، حيث كانت مفاوضات السلام تدور، انفجر غيظ الشعب المكبوت طوال سنوات الحرب الأربع فى قومة ١٩١٩م التى تضمنت الأمة كلها شبابها وفلاحيها، ولما مدحت إحدى الدوائر البريطانية الموظفين، لأنهم لم يشتركوا فى الإضراب، بادر الموظفون من اليوم الثانى بالإضراب جميعاً.
ومن عجب أن الشخصية التى أحبها الشعب كما لم يحب شخصاً آخر ورفعها إلى سماوات الوطنية ــ سعد زغلول ــ كان هو الذى انحرف بالثورة عن مسارها، وقد قامت الثورة لهدف واحد «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وأثبتت الجماهير وقتئذ أن الشعب على أتم الاستعداد لكى يبدأ فى معركة المقاومة، ولكنه انحرف إلى دهاليز المفاوضات التى أفقدت الثورة روحها، وإن ظفرت بمكاسب محدودة مثل دستور سنة ١٩٢٣ الليبرالى والذى كان يوجب سؤال الوزارة أمام البرلمان وحقه فى إقالتها.
ولما كان المسار خاطئاً فإنه لم يقنع الشعب الذى التجأ إلى الأسلوب الثورى، خاصة بعد أن ظهرت فى هذه الفترة مأساة فلسطين وإسرائيل كدولة رسمية فى ١٥ ديسمبر سنة ١٩٤٨م، وكان لابد من الانفجار وحدث هذا فى ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م.
تهيأت مع ثورة ٢٣ يوليو أجواء لتحقيق النهضة ولكنها تحولت للوحدة مع سوريا، ولم يكن التقدم شمالاً هو الاتجاه الأمثل، فمصر دولة إفريقية نهرها ينزل إلى أعماق القارة إلى السودان وهو الامتداد الطبيعى للثورة المصرية

No comments: