Friday, November 4, 2011

ليس هناك ما هو أكثر فاعلية فى علاج كل الأمراض النفسية من الحضن العائلى

أجمل روائح الكون
  بقلم   محمد البرغوثى    ٤/ ١١/ ٢٠١١
لا شىء فى هذه الدنيا يثير دهشتى واستغرابى أكثر من انقطاع إنسان عن جذوره، ليس لضرورة قاهرة، وإنما بمحض إرادته، أو لخضوعه الكامل لما نسميه الظروف والمشاكل وضغوط الحياة.
يحدث كثيراً جداً أن أقاطع شخصاً يحدثنى فى أمر ما، لأطرح عليه هذا السؤال: «إنت منين أصلاً؟»، ويحدث غالباً أن أكتشف أن من طرحت عليه السؤال ينتمى إلى أصول ريفية فى الدلتا أو الصعيد، وأنه لم يذهب إلى قريته طوال عمره إلا مرة أو مرتين، وأن ما رآه خلال زيارة أو زيارتين لم يشجعه على تكرار التجربة. 
ليس هذا الانقطاع عن الأصل المكانى هو الذى خرجت به فقط من معظم الذين طرحت عليهم السؤال - وكلهم تقريباً فى عمر يتراوح بين ٢٠ و٣٠ عاماً - ولكنى لاحظت أيضاً فتوراً شديداً فى علاقتهم بأعمامهم وعماتهم الذين يعيشون مثلهم فى العاصمة الكبرى، وفى كل مرة كنت أواصل طرح الأسئلة لاستقصاء الأسباب التى قضت على هؤلاء الشبان والصبايا أن يعيشوا فى حرمان كامل من أروع وأجمل مصادر الفرح والأمان والونس فى الحياة.
بعد سنوات من ممارسة هذا الاستقصاء، تبين لى أن انقطاع هذا الجيل المسكين عن أصوله أو جذوره لم يكن من اختياره، ولم أعثر على أحد منهم لديه أسباب تخصه هو لاختيار هذا الانقطاع، ولكنى وجدت أن الآباء والأمهات هم الذين اختاروا هذا المصير المحزن لأبنائهم.
نعم.. مصير محزن، وعندما أفكر فى أبنائى أو بالأحرى فى مستقبلهم لا أرى لهم مصيراً أكثر تعاسة من أن تأخذهم الدنيا بعيداً عن جذورهم الريفية والعائلية، ولهذا حرصت قبل أن يولد لى طفل على أن أجعل أهلى فى القرية، أو أينما حلوا هم الملاذ والونس والحضن لزوجتى، وعندما جاء أطفالى إلى الدنيا بذلت أقصى ما أستطيع لأحفر فى الصفحات الأولى من أرشيف ذاكرة كل منهم - وهى أغلى وأهم الصفحات على الإطلاق - ملامح وروائح الأهل والبيوت والشوارع والغيطان فى قريتى، ومن الوهلة الأولى راهنت على أن البيوت المفتوحة والشوارع الهادئة الآمنة والغيطان الممتدة فى براح لا تحده غير صفوف من الأشجار، وفضاء لا تقطعه غير طيور برية سارحة، راهنت على أن روائح الخصوبة وأصوات الحيوانات والدواجن والطيور فى حظائر القرية - ستمثل لأطفال المدن الكريهة والمكتظة عالماً مختلفاً ومثيراً.
وقد حدث ما راهنت عليه بأكثر مما تمنيت، وبأعمق مما حلمت، فإذا بالذهاب إلى القرية يصبح أهم مئات المرات لأبنائى وزوجتى من الذهاب إلى المصيف، وإذا بالعودة من القرية تتحول إلى لحظات انخلاع أليم من أكثر الأماكن بهجة وفرحاً وطمأنينة.
قبل رمضان الماضى بيوم واحد، كنت فى الطريق مع أولادى وزوجتى إلى القرية، وعندما وصلنا إلى أطراف حقولها أفقت على ابنى - أولى ثانوى الآن - ينادينى: «بابا.. اطفى التكييف وافتح القزاز.. بسرعة يا بابا أرجوك». فعلت ما أراد، فإذا به يشد نفساً عميقاً ثم يقول: «الله.. أنا باشم أجمل روائح الكون!». وإذا بأخته الصغيرة تقول: «وبعد ٥ دقايق هنشوف العيلة كلها.. زمانهم كلهم متجمعين عند أَمَّه» - تقصد أمى.
منذ سنوات، اعتدت أن أترك ابنى طيلة شهر رمضان مع أمى وأعمامه وعماته فى القرية، ومنذ سنوات، وهو يقضى شهوراً كاملة يُحدث كل من يعرفهم عما فعله وشاهده فى القرية، وقد لاحظت أن إدراكه للحياة ونظرته للدنيا أوسع وأعمق من إدراك نظرائه، لا لشىء إلا أنه موصول وبقوة بجذوره الريفية والعائلية.
الأمر ذاته وبالعمق ذاته تحقق أيضاً فى علاقة أبنائى - وعلاقتى قبلهم - بأخوالهم، فليس هناك ما هو أحب إليهم جميعاً من الوجود بين الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وعندما أراهم - وقد تركونى وتركوا أمهم وانصهروا بالكامل مع أبناء العائلتين - أشعر فوراً باطمئنان عميق عليهم، وأضرع إلى الله فى السر والعلن أن يديم عليهم نعمة الحضن والونس العائلى.
هل من سبب لكتابة هذا المقال عن أمور تبدو خاصة؟ نعم، هناك سبب، فقد لاحظت، منذ سنوات، أن «العيد» لا يعنى للكثير من الناس غير أنه إجازة من العمل، تتحول غالباً إلى مناسبة للنكد، وكثيراً ما نصحت أُناساً يعانون من الاغتراب والوحدة والضيق النفسى بأن يعودوا إلى جذورهم العائلية..
 فليس هناك ما هو أكثر فاعلية فى علاج كل الأمراض النفسية من الحضن العائلى، وليس شرطاً أبداً أن تكون العائلة ميسورة الحال أو خالية من المشاكل، فأياً كانت ظروف العائلة، وستكون أرحم وأروع وأنبل من أن نترك أنفسنا وأبناءنا فى مهب الانخلاع نهباً للوحدة والاغتراب وافتقاد الونس.
elbrghoty@yahoo.com


No comments: