من كتابات العلامة محمود مشّوح (أبو طريف)
(1929-2000)
مفتي منطقة الفرات في شرق سوريا :
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (46﴾ الأعراف
وصدقوني لَكأن الآيات تتحدث للناس اليوم ، قال ربّ العزة تبارك وتعالى :
( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )
الله جل وعلا يُسند الصرف إلى ذاته الكريمة ( سأصرف عن آياتي الذي يتكبرون في الأرض ) لأن الفعل أولاً وآخراً لله جل وعلا ، وبرغم وضوح الدلائل والآيات فإن كثيراً من الناس يضربهم العمى فلا يدركون ولا يفقهون ، قال ( سأصرف عن آياتي ) كلمة ( الآية ) وردت في الكتاب الكريم وتصرفت في لغة العرب تصاريف ، الآية هي القطعة من السورة ، الآية هي العلامة على الشيء ، الآية هي المعجزة الخارقة ، الآية هي الحادثة العظيمة ،
وكل ذلك يشترك في أمر جوهري وهي أن الآية شيء يلفت النظر ويشد الانتباه .
آية الله إذاً ما هي ؟
هي ما أحل الله بالمكذبين من نقمات ، وما عرّضهم إلى نكال وعقوبات . ومعلوم أن الإنسان من حيث هو إنسان يعتبر بما مضى ، يا إخوة حتى الحيوان يعتبر كذلك .
( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها )
أيها الحاكم الطاغية المتكبر.. ألستَ مخلوقاً من الناس ؟
أنت تأكل كما يأكل البشر ، وتشرب كما يشرب البشر ،
وتنام كما ينام الناس ، وتستيقظ كما يستيقظ الناس ، وتصحّ كما يصح الأصحاء ،
وتمرض كما يمرض المرضى ،وتعيش كما يعيش العائشون ، وتموت كما يموت الآخرون ..
فما الذي يميّزك عن الآخرين ؟
فإذا رأيتَ إنساناً من الناس يسلك طريقاً غلطاً ، ورأيتَ عاقبته مرّة ، وثمرة ما جناه وخيمة ، علقماً وسمّاً زعافاً مهلكاً ، ما الذي يحملك على أن تسلك نفس الطريق ؟ أليس لك في هذا ما يدعوك إلى الاعتبار ؟ .
( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )
أن الله صرف قلوبهم وأعمى أبصارهم ...
سلوني كيف يتكبر الإنسان في الأرض بغير الحق ؟ ينبغي أن نفسّر لكم هذا الأمر ، ينبغي أن نشرح الأمور شرحاً مناسباً .
قضية وجود الله مع مخلوقاته تعني أن الكبرياء ذاتاً واستحقاقاً هو لله ..
وكل ما عدا الله فهو عبد مربوبٌ لهذا الرب الكريم العظيم..
وإذاً فمن حيث المبدأ فكل متكبر جبار عُتلٍّ جَوّار فهو بغيض إلى الله جلّ وعلا ،
ذلك لأن الأمر المبدئي أن الكبرياء لله وأن من في السموات والأرض سوف يأتون يوم القيامة عبيداً أذلاء خاضعين لله تعالى . فكل إنسانٍ يتكبر في الأرض ويتجبر على العباد بغير حق فذلك سوف يحصل على نتيجة ملموسة هي الطمس على البصيرة .. تعطيل أدوات الفكر والفهم ، أدوات الإدراك ، أدوات الاستفادة من عبر الحياة الدنيا..
لكن هل هناك تكبّر في الأرض بالحق ؟
سـؤال لا بد أن نجيب عليه ، نقول : نعم . ارجعوا إلـى الكتاب الكريم .. إن الله جلّ وعلا حينما عرض رسالته الإسـلامية علـى العرب خاطب بلسـان التهديد ، مبيناً أنكم إن توليتم وأعرضتم..
( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )
بماذا وصفهم ؟ قال
( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )
وحين وصف الله جلّ وعلا محمد وصحبه قال
( رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً ) وقال إنهم ( أشداء على الكفار )
فالتكبر في الأرض أحياناً يكون بحق متى ؟
تصوّرْ أنك كنتَ في مجلس وسخر إنسانٌ من دينك ، فإن واجبك هنا أن تلقنه درساً في كبرياء الإيمان وعزة الإسلام وأن تحطمَ له هذا الأنف الذي يرتفع بغير حق ، وأن تريه أنه هو الصغير الذليل القميئ الحقير ..
أن تتكبر في وجه المعصية وأن تتمرد عليها وأن تردها على صاحبها وأن ترى نفسك بإيمانك أعلى وأسمى من كل فاسق مهما تكاثف جنده ومهما كثر ماله ومهما ازدحمت أعوانه..
ذلك تكبّر في الأرض بحق .
لكن حينما تكون في طريق الباطل وجادة الشيطان فتنازعك الكبرياء فأنت في هذه الحالة متكبر في الأرض بغير حق .
هنا هؤلاء الناس هذا الطراز المهين المخرب المجرم في حق الإنسانية ماضياً وحاضراً وآتياً ماذا رتب الله لهم ؟
قال ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )
أي أن الله يمنعهم من شم روائح الخطر القادمة عليهم وصرف قلوبهم وأعمى أبصارهم ....
لقد تكبروا في الارض بغير حق...
فيسلب الله منه هذه الحاسة التي تجعله قادراً على اكتشاف الخطر أيما كان .
( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها )
يا إخوة لا بد لي أن أقول نبذة تدلكم على مدى الأخطار التي يقع فيها أناس من هذا القبيل .
للأسف نحن في صراع مع إسرائيل كما تعلمون لا ندري ماذا سيحدث بعد أيام .
المهم أننا ما نزلنا في البنى الفوقية ، في الأنظمة الحاكمة ،
في الأحزاب القائدة الرائدة والرائدة جداً ...
رائدة في الخمارات والمواخير ، رائدة في السرقة واللصوصية ..
ما زلنا نقول إن الصراع بيننا وبين إسرائيل صراع قومي !!!
يا إخوة والله في كل ما قرأت وأنا شديد العناية بالقضية الفلسطينية ، أعتني بها وأقرأ أخبارها وأتتبع وقائعها ..
لم أعثر منذ أن تحدّث اليهود في حقوق مزعومة لمسؤول أو غير مسؤول يهودي سواء كان في إسرائيل أو خارج إسرائيل...
يتحدّث عن الناحية القومية أو العنصرية ، كلهم يقول لك إن المسألة مسألة دين وعقيدة ،
وإن الإنسان اليهودي لا يمكن له الخلاص إلا أن يموت في أرض الميعاد .
أما نحن العرب أبناء محمد وأصحاب محمد ، نحن السُبّة والعار ، نحن الخزي في جبين أصحاب محمد ، نحن الجيل الشائه ، نحن الجيل المخرّب ، نحن الجيل التافه ..
نحن فقط نقول : لا ، إن إسرائيل صنيعة الاستعمار ، وإن إسرائيل جاءت بدافع عنصري..
وإن المسألة أولاً وآخراً مسألة قومية !!!
لماذا إذا كان خصمك يقول لك : أنا قادم إليك باسم الدين؟؟؟ !!!
تقول له : لا أنت كذاب ، أنت مفتري أنت مجرم أنت خائن بدون أدنى ريب ...
وبكل عري الكلمات وبكل غناها وبكل سعتها وبكل شمولها .
نحن نقول هذا الكلام لغاية واحدة فقط هي أن نعزل المسلمين عن معركتنا مع اليهود ...
لا أكثر ولا أقل ...
بالرغم ما حصل ، خضنا المعركة قوميةً في أوائل الثلاثينات ففشلنا ، وخضناها قوميةً فـي 48 ففشلنا ، وخضناها في 56 وبرغم الناصر والقاهر والظافر وما أدراك بتلك الألقاب . وفشلنا ، وخضناها في 67 فكانت فاضحة العمر ، بل فضيحة الدهر وخضناها في 73 ففقدنا نحن هنا فى سوريا 28 قرية زيادة على ما فقدناه في سنة 67 ، وفشلنا ، ونقول نحن أننا ربحنا .
ونحن الآن على أبواب واقع مخيف لا ندري ماذا يكون منه ، لا ندري متى تدقّ اليد المجرمة التي لا ترعى دماً ولا ترعى كرامةً ولا ترعى مرحةً ، لا ندري متى تدقّ أبوابنا .
ومع ذلك نصرّ إصراراً غريباً عجيباً يكشف عن مدلول هذه الآية الكريمة وهي أن الله صرف قلوبنا وأعمى أبصارنا ...
ونصرّ أيضاً على أننا قوميون وعلى أننا علمانيون ، والغاية واضحة ، الغاية معروفة ...
وهي أن يُعزل الإسلام من المعركة ...
ويقيني أن هذا لم يخدم الأمة ، وأن الخدمة فقط ستكون لصالح إسرائيل ولصالح من وراء إسرائيل من المستعمرين .
فالأولى والأحرى بنا ونحن نطبّل ونزمّر ونعزف على هذه الأوتار المهترئة الفاسدة البغيضة المجرمة عشرات السنين .
لو أننا أنفقنا سنتين أو خمس سنوات نوقظ من خلالها من وراء المذياع ومن وراء التلفاز وعلى صفحات المجلات والجرائد نوقظ كوامن النخوة الإسلامية ونضرب على أوتار الإيمان ..
يا أحبابنا أقسم بالله الذي لا ربّ سواه إن المسلمين لو بصق كل واحد منهم بصقة على إسرائيل لأغرقوها في بحر من البصاق ، ولكنا عمداً نعزل الإسلام عن المعركة ، لماذا ؟
لأن الله صرَفنا عن آياته وصرف قلوبنا وأعمى أبصارنا ...
بأي سبب ؟
بسبب أننا(الحكام) تكبّرنا في الأرض بغير الحق .
وأي تكبّر يا إخوة أعظم من نأتي إلى شريعة الله فنضعها وراء ظهورنا ؟
وأي تكبر في الأرض وأخطر من نأتي إلى القوانين التي صنعها نابليون ومسخها المصريون ونقلها الكوراني إلينا لنطبقها حتى يجد الواحد منا أحداً مع حريمه في حالة زنا لا يستطيع أن يفعل معه شيئاً لأن القضاء يقول إنه لا مسؤولية في الأمر ؟
أي تكبر في الأرض أكبر من أن نرى كلام الناس أكبر من كلام الله تعالى ..
وشـرع الناس أفضل من شرع الله ؟
أتريدون تكبراً أكبر من هذا ؟
إذاً فالنتائج التي نعانيها والهزائم التي نواجهها ليست غضباً منصباً علينا بلا سـبب !!!
ولكنه النتيجة التي تترتب ترتباً منطقياً كما أن واحداً وواحداً يساوي اثنين ...
كذلك كل من يفسـق عن أمر الله جل وعلا سيعاين هذ ه النتائج بلا زيادة وبلا نقصان .
( سـأصرف عن آياتي الذين يتكبرون فـي الأرض بغير الحق وإن يروا كل آيـة لا يؤمنوا بها ) يُعرضوا - أن الله صرف قلوبنا وأعمى أبصارنا ... ( وإن يروا سـبيل الرشـد ) الصلاح والفلاح ( لا يتخذوه سبيلاً ) لا يسـيرون فيه
( وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ) الغي ، الفساد ، الشر ، فيه الزنا والخمر وفيه الملذات وفيه الليالي الحمراء وفيه مباهج وفيه وفيه .. وفيه ما تعلمون وما لا تعلمون ...
كذلك في نفس الوقت فان الغى ليس فيه تكاليف وليس فيه واجبات ثقيلة ...
إن كانت حرب فحرب من وراء المذياع...
وإن كانت توجيهاً فمن وراء الطاولة ...
أما المعاناة فتقع علي وعليك وعلى هذا الشعب الدرويش ...
على هؤلاء الناس المساكين الذين سيدفعون ضريبة هذا الإهمال من دمائهم ومن كراماتهم ومن أعراضهم ومن شرفهم ومن حياتهم ومن حياة أولادهم..
( وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ذلك ) بماذا ؟
إن الله لا يترك الأمر هكذا ، وإنما يعلل ويعطيك الأمور مرتبة ترتيباً عقلياً ( ذلك بأنهم ) أي هؤلاء (الحكام) الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق فصُرفت قلوبهم عن إدراك المخاطر.
( ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا )
واستعمال اللفظ هذا ( كذبوا ) يُشعر أن هذا الإنسان أو هذه الأمة التي خوطبت بالكلام الإلهي لم تكلّف نفسها عناء البحث ومشاكل النظر والقدرة العقلية التي تمكنّها من معرفة الباطل من الحق والصحيح من الخطأ ...
سوالف المكذبين عجيبة ، ولكن الناس يتورطون فيها ، والدين أولاً وآخراً جاء ليخلّص الجوهر الإنساني من هذه الشوائب ليجعل الإنسان إنساناً يتحرك بإرادة الله وعلى هدي الله تبارك وتعالى ( ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها ) أي عن آياتنا ( غافلين ) .
لقد حصلت عبر ، هزائم وعانيناها ، نكبات استوينا بها ، أحداث من حولنا حصلت ،
في كل شيء منها عبرة لمن يريد أن يعتبر ...
ونحن كما قلت لكم مقبلون على أحداث ، حدسي يقول لي ذلك ، إن أحداثاً خطيرة ومفزعة سوف يشهدها عالَمنا هذا ، وإن متغيرات لن تكون في صالحنا أبداً إذا لم نتسلح بالوعي والإدراك ولا أدري ـ بالرغم من أني دائماً متفائل ...
لا أدري لماذا يعتصر التشاؤم قلبي ؟؟؟
بدلاً من أن نوجّه طاقاتنا ونصبّ جام غضبنا على عدونا المفرد في التاريخ..
الصليبية واليهودية العالمية ...
فسوف يتلهّى بعضنا ببعض !!!
وإزاء هذا فأسأل الله تعالى أن يُكذّب ظنوني وأن يجعل الظن بأمتي حسناً وأن يلهمنا من أمرنا رشداً وأن يبصّرنا بطرائق النجاح والفلاح وأن يحفظ علينا إنسانيتنا وأن يكمّل لنا رجولتنا وأن يوزعنا شكره على ما أنعم علينا بهذا الإسلام وأن يجعلنا خير ورثة لأعظم تركة أنزلها الله..
منةً علينا
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .
No comments:
Post a Comment