قال صاحبي وهو ينتقي عباراته :
لا أريد أن أجرحك فأنا أعلم اعتزازك بالقرآن
و أنا معك في أنه كتاب قيم .. و لكن لماذا لا يكون من
تأليف محمد ؟ .. إن رجلاً في
عظمة محمد لا يستغرب منه أن يضع كتاباً في عظمة القرآن .. سوف يكون هذا منطقياً أكثر
من أن نقول إن الله أنزله
.
فإنا لم نر الله ينزل من السماء شيئاً .. و
نحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنساناً بأن هناك ملاكاً اسمه جبريل نزل من السماء
بكتاب ليوحي به إلى أحد
.
قلت في هدوء : - بل نحن في عصر يسهل فيه تماماً
أن نصدق بأن هناك ملائكة لا ترى ، و بأن الحقائق يمكن أن تلقى إلى الإنسان وحياً
.. فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائره تنزل على الأرض . كواكب بعيدة و أشعة غير منظورة
تقتل ، و أمواج لاسلكية تحدد الأهداف و تضربها .. وصور تتحول إلى ذبذبات في الهواء
ثم تستقبل في أجهزة صغيرة كعلب التبغ .. و كاميرات تصور الأشباح .. و عيون ترى في الظلام
.. و رجل يمشى على القمر .. و سفينة تنزل على المريخ .. لم يعد غريباً أن نسمع أن الله
أرسل ملكاً خفياً من ملائكته.. و أنه ألقى بوحيه على أحد أنبيائه .. لقد أصبح وجود
جبريل اليوم حقيقة من الدرجة الثانية .. و أقل عجباً و غرابة مما نرى و نسمع كل يوم .
أما لماذا لا نقول إن القرآن من تأليف محمد
عليه الصلاة و السلام .. فلأن القرآن بشكله و عباراته و حروفه و ما احتوى عليه من علوم
و معارف و أسرار و جمال بلاغي و دقة لغوية هو مما لا يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه ..
فإذا أضفنا إلى ذلك أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان أمياً ، لا يقرأ و لا يكتب و
لم يتعلم في مدرسة و لم يختلط بحضارة ، و لم يبرح شبه الجزيرة العربية ، فإن احتمال
الشك و احتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيلاً .. و الله يتحدى المنكرين ممن زعموا
أن القرآن مولف
:
( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (
استعينوا بالجن و الملائكة وعباقرة الإنس وأتوا
بسورة من مثله و مازال التحدي قائماً و لم يأت أحد بشيء ... إلا ببعض عبارات مسجوعة
ساذجة سموها "سورة من مثله"... أتى بها أناس يعتقدون أن القرآن مجرد كلام
مسجوع .. و لكن سورة من مثله.. أي بها نفس الإعجاز البلاغي و العلمي .. وإذا نظرنا
إلى القرآن في حياد و موضوعية فسوف نستبعد تماماً أن يكون محمد عليه الصلاة و السلام
هو مؤلفه
.
أولاً : لأنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه و
أشجانه ، و نحن نراه في عام واحد يفقد زوجه خديجة و عمه أبا طالب و لا سند له في الحياة
غيرهما .. و فجيعته فيهما لا تقدر .. و مع ذلك لا يأتي لهما ذكر في القرآن و لا بكلمة
.. و كذلك يموت ابنه إبراهيم و يبكيه ، و لا يأتى لذلك خبر في القرآن .. القرآن معزول
تماماً عن الذات المحمدية
.
بل إن الآية لتأتي مناقضة لما يفعله محمد و
ما يفكر فيه .. و أحياناً تنزل الآية معاتبة له كما حدث بصدد الأعمى الذي انصرف عنه
النبي إلى أشراف قريش
:
( عبس و تولى ، أن
جاءه الأعمى ، و ما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى (
وأحياناً تنزل الآية فتنقض عملاً من أعمال النبي :
( ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيز
حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (
و أحياناً يأمر القرآن محمد بأن يقول لأتباعه
ما لا يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكلام تأليفاً
:
( قل ما كنت بدعاً
من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم (
لا يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول لأتباعه
لا أدرى ما يفعل بي و لا بكم .. لا أملك لنفسي ضراً و لا نفعاً .. و لا أملك لكم ضراً
و لا نفعاً
.
فإن هذا يؤدى إلى أن ينفض عنه أتباعه .. و هذا
ما حدث فقد اتخذ اليهود هذه الآية عذرا ليقولوا .. ما نفع هذا النبي الذي لا يدرى ماذا
يفعل به و لا بنا .. هذا رجل لا جدوى فيه
.
مثل هذه الآيات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي
لو كان يضع القرآن من عند نفسه
.
ثانياً : لو نظرنا بعد ذلك في العبارة القرآنية
لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها و بنائها و معمارها ليس لها شبيه فيما سبق من أدب
العرب و لا شبيه فيما أتى لاحقاً بعد ذلك .. حتى لتكاد اللغة تنقسم إلى شعر و نثر و
قرآن .. فنحن أمام كلام هو نسيج وحده لا هو بالنثر و لا بالشعر .
فموسيقى الشعر تأتى من الوزن و من التقفية فنسمع
الشاعر ابن الأبرص الأسدى ينشد:
أقفر من أهله عبيد
فليس يبدى و لا يعيد
هنا الموسيقى تخرج من التشطير و من التقفية
على الدال الممدودة ، فهي موسيقى خارجية .. أما موسيقى القرآن فهي موسيقى داخلية:
( و الضحى ، و الليل
إذا سجى (
لا تشطير و لا تقفية في هذه العبارة البسيطة
، ولكن الموسيقى تقطر منها .. من أين؟ إنها موسيقى داخلية
.
اسمع هذه الآيات
:
( رب إني وهن العظم
منّي واشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا (
و هذه الآيات
:
( طه ، ما أنزلنا
عليك القرآن لتشقى ، إلا تذكرة لمن يخشى ، تنزيلاً ممن خلق الأرض و السموات العلى ،
الرحمن على العرش استوى (
فإذا تناولت الآيات تهديداً تحول بناء العبارة
و نحتها إلى جلاميد صخر .. و أصبح للإيقاع صلصلة نحاسية تصخ السمع :
( إنا أرسلنا عليهم
ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر ، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر(
كلمات مثل "صرصراً".. "و منقعر"..
كل كلمة كأنها جلمود صخر .. فإذا جاءت الآية لتروى خبراً هائلاً كما في نهاية الطوفان
تقاصرت العبارات و كأنها إشارات " مورس " التلغرافية .
و أصبحت الآية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع
هائل : ( و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و غيض الماء و قضي الأمر(
هذا التلون في نحت الألفاظ و في بناء العبارة
و في إيقاع الكلمات مع المعاني و المشاعر .. يبلغ في القرآن الذروة و يأتي دائماً منساباً
لا تكلف فيه و لا تعمل
.
ثالثاً : إذا مضينا في التحليل أكثر فإنا سنكتشف
الدقة البالغة و الإحكام المذهل .. كل حرف في مكانه لا تقديم و لا تأخير .. لا تستطيع
أن تضع كلمة مكان كلمة ، و لا حرفاً مكان حرف .. كل لفظة تم اختيارها من مليون لفظة
بميزان دقيق
.
و سنرى أن هذه الدقة البالغة لا مثيل لها في
التأليف .. انظر إلى هذه الكلمة " لواقح " في الآية : ( و أرسلنا الرياح
لواقح (
و كانوا يفسرونها في الماضي على المعنى المجازي
بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسقط المطر فيلقح الأرض بمعنى " يخصبها " ثم
عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيجابية التكهرب و تلقي بها في أحضان السحب سالبة
التكهرب فيحدث البرق و الرعد والمطر .. و هي بهذا المعنى "لواقح " أيضا ،
و نعرف الآن أيضاً أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى زهرة فتلقحها بالمعنى الحرفي
، ون عرف أخيراً أن المطر لا يسقط إلا بتلقيح قطيرات الماء بذرات الغبار فتنمو القطيرات
حول هذه الأنوية من الغبار و تسقط مطراً .. فها نحن أولاء أمام كلمة صادقة مجازياً
و حرفياً وعلمياً ، ثم هي بعد ذلك جميلة فنياً و أدبياً و ذات إيقاع حلو .
هنا نرى منتهى الدقة في انتقاء اللفظة و نحتها
، و في آية أخرى
:
( و لا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم و أنتم
تعلمون (
كلمة " تدلوا
".
مع أن الحاكم الذي تلقى إليه الأموال في الأعلى
و ليس في الأسفل .. لا .. إن القران يصحح الوضع ، فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى
و لو كانت يد الحاكم .. و من هنا جاءته كلمة " تدلوا بها إلى
الحكام " لتعبر
في بلاغة لا مثيل إلا عن دناءة المرتشي و سفله
.
و في آية الجهاد
:
( ما لكم إذا قيل
لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض (
القرآن يستعمل كلمة " اثَّاقلتم
" بدلا من تثاقلتم .. يدمج الحروف إدماجاً ، و يلصقها إلصاقاً ليعبر عن جبن الجبناء
الذين يلتصقون بالأرض ( و يتربسون ( فيها من الخوف إذا دعوا إلى القتال ، فجاءت حروف
الكلمة بالمثل (متربسة(
.
و في آية قتل الأولاد من الفقر نراها جاءت على
صورتين :
( و لا تقتلوا أولادكم
من إملاق نحن نرزقكم و إياهم (
( و لا تقتلوا أولادكم
خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم (
و الفرق بين الآيتين لم يأتي اعتباطاً ، و إنما
جاء لأسباب محسوبة .. فحينما يكون القتل من إملاق فإن معناه أن الأهل فقراء في الحاضر
، فيقول : نحن ( نرزقكم ( و إياهم
.
و حينما يكون قتل الأولاد خشية إملاق فإن معناه
أن الفقر هو احتمال في المستقبل و لذا تشير الآية إلى الأبناء فتقول نحن "نرزقهم
" و إياكم
.
مثل هذه الفروق لا يمكن أن تخطر على بال مؤلف
.. و في حالات التقديم و التأخير نجد دائماً أنه لحكمة ، نجد أن السارق مقدم على السارقة
في آية السرقة ، في حين أن الزانية مقدمة على الزانى في آية الزنى .. و ذلك لسبب واضح
، أن الرجل أكثر إيجابية في السرقة .. أما في الزنى فالمرأة هي التي تأخذ المبادرة
، من لحظة وقوفها أمام المرآة تضع " البارفان " و لمسات " التواليت
" و تختار الفستان أعلى الركبة فإنها تنصب الفخاخ للرجل الموعود .
(الزانية
و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
(
( و السارق و السارقة
فاقطعوا أيديهما (
و بالمثل تقديم السمع على البصر في أكثر من
16 مكاناً
( و جعل لكم السمع
و الأبصار و الأفئدة (
( و جعلنا لكم سمعا
و أبصارا و أفئدة (
(أسمع بهم وأبصر(
( إن السمع و البصر
و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (
( و ما كنتم تستترون
أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم (
( ليس كمثله شيء و
هو السميع البصير(
دائما السمع أولاً . و لا شك أن السمع أكثر
إرهافاً و كمالاً من البصر .. إننا نسمع الجن و لا نراه .. و الأنبياء سمعوا الله و
كلموه و لم يره أحد
.
و قد تلقى محمد القرآن سمعاً .. والأم تميز
بكاء ابنها في الزحام و لا تستطيع أن تميز وجهه .. و السمع يصاحب الإنسان أثناء النوم
فيظل صاحياً في حين تنام عيناه ، و من حاول تشريح جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة و إرهافاً
من جهاز البصر
.
و بالمثل تقديم المال على الولد :
( يوم لاينفع مال
ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم (
( إنما أموالكم و
أولادكم فتنة ، و الله عنده أجر عظيم (
( لن تغنى عنهم أموالهم
و لا أولادهم من الله شيئاً ، و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (
( أيحسبون أن ما نمدهم
به من مال و بنين ، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (
( فلا تعجبك أموالهم
و لا أولادهم إنما يريد ألله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا (
( اعلموا أنما الحياة
الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب
الكفار نباته (
و الأمثلة على هذا التقديم كثيرة و السر أن
المال عند أكثر الناس أعز من الولد .. ثم الدقة و الخفاء و اللطف في الإعراب .
انظر إلى هذه الآية
:
( و إن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (
مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع "اقتتلوا"
و مرة على أنهما مثنى "فأصلحوا بينهما" والسر لطيف .. فالطائفتان في القتال
تلتحمان وتصبحان جمعاً من الأذرع المتضاربة .. في حين أنهما في الصلح تتفصلان إلى اثنين
.. و ترسل كل واحدة عنها مندوباً ، و من هنا قال : و إن طائفتان من المؤمنين
"اقتتلوا" فأصلحوا "بينهما"!
حتى حروف الجر و الوصل و العطف تأتى و تمتنع
في القرآن لأسباب عميقة ، و بحساب دقيق محكم .. مثلاً تأتي كلمة "يسألونك
" في أماكن عديدة من القرآن:
( يسألونك ماذا ينفقون
قل العفو(
( يسألونك عن الروح
قل الروح من أمر ربي (
( يسألونك عن الأهلة
قل هي مواقيت للناس و الحج (
دائماً الجواب بكلمة "قل ".. و لكنها
حين تأتى عن الجبال
:
( و يسألونك عن الجبال
فقل ينسفها ربي نسفاً (
هنا لأول مرة جاءت "فقل" بدلاً من
"قل ".. و السبب أن كل الأسئلة السابقة كانت قد سئلت بالفعل ، أما سؤال الجبال
فلم يكن قد سئل بعد ، لأنه من أسرار القيامة ، و كأنما يقول الله : فإذا سألوك عن الجبال
"فقل ".. فجاءت الفاء زائدة لسبب محسوب
..
أما في الآية
:
( وإذا سألك عبادي
عني فإني قريب أجيب دعوة الداع (
هنا لا ترد كلمة "قل " لأن السؤال
عن ذات الله .. و الله أولى بالإجابة عن نفسه
..
كذلك الضمير أنا و نحن .
يتكلم الله بضمير الجمع حيثما يكون التعبير
عن "فعل " إلهي تشترك فيه جميع الصفات الإلهية كالخلق ، و إنزال القرآن و
حفظه :
( إنا نحن نزلنا الذكر
و إنا له لحافظون (
( نحن خلقناكم فلولا
تصدقون (
( إنا أنزلناه في
ليلة القدر(
( أفرأيتم ما تمنون
، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (
( نحن خلقناهم و شددنا
أسرهم و إذا شئنا بدلنا أمثالم تبديلا (
"ونحن
" هنا تعبر عن جمعية الصفات الإلهية و هي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق
.
أما إذا جاءت الآية في مقام مخاطبة بين الله
وعبده كما في موقف المكالمة مع موسى .. تأتي الآية بضمير المفرد ( إنني أنا الله لا
إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى (
الله يقول : "أنا" لأن الحضرة هنا
حضرة ذات ، و تنبيها منه سبحانه على مسألة التوحيد و الوحدانية في العبادة .
و نجد مثل هذه الدقة الشديدة في آيتين متشابهتين
عن الصبر تفترق الواحدة عن الأخرى في حرف اللام .. يقول لقمان لولده :
( و اصبر على ما أصابك
إن ذلك من عزم الأمور (
و في آية أخرى عن الصبر نقرأ :
( و لمن صبر و غفر
إن ذلك لمن عزم الأمور (
الصبر في الأولى "من عزم الأمور"
و في الثانية " لمن عزم الامور".. و سر التوكيد باللام في الثانية أنه صبر
مضاعف ، لأنه صبر على عدوان بشري لك فيه غريم ، و أنت مطالب فيه بالصبر و المغفرة و
هو أمر أشد على النفس من الصبر على القضاء الإلهي الذي لا حيلة فيه ..
و نفس هذه الملاحظة عن "اللام " نجدها
مرة أخرى في آيتين عن إنزال المطر و إنبات الزرع
:
( أفرأيتم
الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ، لو نشاء جعلناه أجاجا
( ، "أي مالحا"
و في آية ثانية
:
( أفرأيتم ما تحرثون
، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، لو نشاء لجعلناه حطاما (
في الآية الأولى "جعلناه " أجاجا..
و في الآية الثانية "لجعلناه " حطاما واللام جاءت في الثانية لضرورة التوكيد
، لأن هناك من سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق ، و يجعله حطاما
.. في حين لن يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مطرا
مالحا فلا حاجة إلى توكيد باللام
..
و نفس هذه الدقة نجدها في وصف إبراهيم لربه
في القرآن بأنه
:
( الذي يميتنى ثم
يحيين (
( والذي هو يطعمنى
و يسقين ( .
فجاء بكلمة"هو" حينما تكلم عن
"الإطعام " ليؤكد الفعل الإلهي ، لأنه سوف يدعي الكل أنهم يطعمونه .. و يسقونه
، على حين لن يدّعي أحد بأنه يميته و محييه كما يميته الله ويحييه .
و نجد هذه الدقة أيضاً حينما يخاطب القرآن المسلمين
قائلاً :
( اذكروني أذكركم (
و يخاطب اليهود قائلاً :
( اذكروا نعمتي التي
أنعمت عليكم (
فاليهود ماديون لا يذكرون الله إلا في النعمة
و الفائدة و المصلحة و المسلمون أكثر شفافية و يفهمون معنى أن يذكر الله لذاته لا لمصلحة ..
و بنفس المعنى يقول الله للخاصة من أولى الألباب :
( اتقوني يا أولى
الألباب (
و يقول للعوام
:
( اتقوا النار التي
وقودها الناس و الحجارة (
لأن العوام لا يردعهم إلا النار ، أما الخاصة
فهم يعلمون أن الله أقوى من كل نار ، و أنه يستطيع أن يجعل النار برداً و سلاماً إن
شاء .
و نجد مثل هذه الدقة البالغة في اختيار اللفظ
في كلام إبليس حينما أقسم على ربه قائلاً
:
( فبعزتك لأغوينهم
أجمعين (
أقسم إبليس بالعزة الإلهية و لم يقسم بغيرها
، فأثبت بذلك علمه و ذكاءه ، لأن هذه العزة الإلهية هي التي اقتضت استغناء الله عن
خلقه ، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر، و لن يضروا الله شيئاً ، فهو العزيز عن خلقه
، الغني عن العالمين
.
و يقول الله في حديثه القدسى :
(هؤلاء في النار و
لا أبالي ، و هؤلاء في الجنة ولا أبالي (
و هذا مقتضى العزة الإلهية .. وهي الثغرة الوحيدة
التي يدخل منها إبليس ، فهو بها يستطيع أن يضل و يوسوس ، لأن الله لن يقهر أحداً اختار
الكفر على الإيمان .. و لهذا قال "فبعزتك " لأغوينهم أجمعين .
( لأقعدن
لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم
( ذكر الجهات الأربع ، و لم يذكر من فوقهم و لا من تحتهم .. لأن "فوق " الربوبية
، و " تحت " تواضع العبودية .. و من لزم مكانه الأدنى من ربه الأعلى لن يستطيع
الشيطان أن يدخل عليه
.
ثم ذكر إبليس أن مقعده المفضل للإغواء سوف يكون
الصراط المستقيم .. على طريق الخير و على سجادة الصلاة ، لأن تارك الصلاة و السكير
و العربيد ليس في حاجة إلى إبليس ليضله ، فقد تكفلت نفسه بإضلاله ، إنه إنسان خرب
.. و إبليس لص ذكي ، لا يحب أن يضيع وقته بأن يحوم حول البيوت الخربة .
مثال آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق
المغفرة على العذاب و الرحمة على الغضب في القرآن .. فالله في "الفاتحة"
هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين .. وهو دائماً يوصف بأنه يغفر لمن يشاء
و يعذب من يشاء ... تأتى المغفرة أولاً قبل العذاب إلا في مكانين في آية قطع اليد :
( يعذب من يشاء و
يغفر لمن يشاء (
لأن العقوبة بقطع اليد عذاب دنيوي .. تليه مغفرة
أخروية .. و في كلام عيسى يوم القيامة عن المشركين الذين عبدوه من دون الله .. فيقول
لربه :
( إن تعذبهم فإنهم
عبادك ، و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (
فلا يقول فإنك أنت الغفور الرحيم تأدباً ..
و يذكر ألم العذاب قبل المغفرة .. لعظم الإثم الذي وقعوا فيه
.
و نجد هذه الدقة القرآنية مرة أخرى في تناول
القرآن للزمن .. فالمستقبل يأتي ذكره على لسان الخالق على أنه ماض .. فأحداث يوم القيامة
ترد كلها على أنها ماض
:
" و نفخ في الصور"
"و انشقت السماء
فهي يومئذ واهية "
"و برزت الجحيم
للغاوين"
"وعرضوا على
ربك صفا"
و السر في ذلك أن كل الأحداث حاضرها و مستقبلها
قد حدثت في علم الله و ليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل ، فهو سبحانه فوق الزمان
والمكان ، و لهذا نقرأ العبارة القرآنية أحياناً فنجد أنها تتحدث عن زمانين مختلفين
، و تبدو في ظاهرها متناقضة مثل
:
"أتى أمر الله
فلا تستعجلوه"
فالأمر قد أتى و حدث في الماضي .
لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كما لو
كان مستقبلًا لم يحدث بعد .. و السر كما شرحنا أنه حدث في علم الله ، لكنه لم يحدث
بعد في علم الناس ، ولا تناقض .. و إنما دقة و إحكام ، و خفاء و استسرار ، و صدق في
المعاني العميقة
.
هذه بعض الأمثلة للدقة البالغة و النحت المحكم
في بناء العبارة القرآنية و في اختيار الألفاظ و استخدام الحروف لا زيادة و لا نقص
، و لا تقديم و لا تأخير ، إلا بحساب و ميزان ، و لا نعرف لذلك مثيلاً في تأليف أو
كتاب مؤلف ، و لا نجده إلا في القرآن
.
أما لمحات العلم في القرآن و عجائب الآيات الكونية
التي أتت بالأسرار و الخفايا التي لم تكتشف إلا في عصرنا ، و التي لم يعرفها محمد
! و لا عصره فهي موضوع آخر يطول ، و له جلسة أخرى
.
..
-- د. مصطفى محمود من كتاب : حوار مع صديقي الملحد --
..
No comments:
Post a Comment