Neil Asher Silberman |
صدر في نيويورك أخيراً كتاب بعنوان «الكشف عن
الكتاب المقدس: رؤية الآثار الجديدة لأصل نصوصه المقدسة»، يقارن بين ما ورد في القصص
التوراتية من أحداث، وما عثر عليه رجال الآثار من أدلة خلال القرن الماضي. الكتاب الذي
ألفه اثنان من الباحثين اليهود، نيل أشر سلبرمان وإسرائيل فنكليستاين ـ وهو واحد من
أهم رجال الآثار في إسرائيل الآن ـ يبين عدم وجود أدلة أثرية تؤكد بعض الأحداث التوراتية،
مثل هجرة بني إسرائيل إلى مصر ثم خروجهم منها، كما لا توجد بقايا تشير إلى غزو بني
إسرائيل لأرض كنعان أو إقامتهم لإمبراطورية تمتد حدودها بين النيل والفرات في عصر داود
وسليمان. ويناقش الكتاب الجديد بصفة خاصة البقايا الأثرية التي تم العثور عليها في
الطبقة الأرضية التي اصطلح على تسميتها «الطبقة السليمانية» نسبة إلى الملك سليمان،
خلال العصر الحديدي الثاني في القرن العاشر قبل الميلاد، حيث ان نسبة هذه البقايا إلى
عصر سليمان استندت إلى الاعتقاد الديني فقط، دون وجود دليل تاريخي. وبينما ذكرت الكتب
التوراتية أن سليمان قام ببناء العديد من القصور والمدن إلى جانب الاستحكامات الحربية،
فإن الطبقة الأرضية التي تنسب إلى عصره تكاد تخلو من أية أبنية مهمة. ولا يذهب فنكليستاين
إلى حد إنكار وجود داود وسليمان تاريخياً، لكنه يعتقد أنهما كانا رئيسين لبعض قبائل
بني إسرائيل في يهودا، وليسا ملكين لامبراطورية تمتد حدودها بين النيل والفرات. وينكر
فنكليستاين ما ذكرته بعض الكتب التوراتية من وجود مملكة متحدة من إسرائيل في شمال فلسطين
ويهودا في الجنوب، بعد عصر سليمان خلال القرن التاسع قبل الميلاد. ويذهب إلى أن الكتبة
الذين صاغوا كتب التوراة كما وصلتنا، ادعوا زيفا أن داود أقام مملكة قوية بين النيل
والفرات. فبخلاف نص منقوش فوق قطعة من الحجر تم العثور عليه في تل دان بشمال إسرائيل
ورد به تعبير «بيت داود»، لم يتمكن الأثريون من العثور على دليل يشير صراحة أو كناية
إلى مملكة داود وسليمان في فلسطين. وبينما تقول رواية سفر صموئيل الثاني وسفر الملوك
الأول بأن الملك داود أقام امبراطورية تمتد بين النيل والفرات أورثها لسليمان بعد وفاته،
لم يتمكن رجال الآثار من العثور على ذكر واحد لأي من ملكي بني إسرائيل، رغم وجود
300 موقع تقوم فيها البعثات الأثرية بأعمال الحفر، في إسرائيل والضفة والقطاع. وكان
الاعتقاد الذي ظل سائدا حتى القرن التاسع عشر، يذهب إلى اعتبار القصص التوراتية تمثل
أحداثا تاريخية حقيقية، وأدى عدم ظهور أدلة أثرية تتفق مع قصص التوراة إلى الاعتقاد
بأنها روايات أسطورية لا تعبر عن الأحداث التاريخية. فليس هناك دليل من الآثار على
وجود مملكة إسرائيلية متحدة أيام شاؤول وداود وسليمان، كما لم ترد أية إشارة لهؤلاء
الملوك في المصادر التاريخية. وتبين الآن أن قصص التوراة تضمنت أحداثا تاريخية لشعوب
وممالك أخرى في الشرق الأوسط، تم اقتباسها لتكون جزءا من تاريخ مملكة بني إسرائيل.
والمرجح أن دولة يهودا التوراتية لم تظهر إلا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، في زمن
الحكم الفارسي.
كنت قد تحدثت في مؤتمر علماء المصريات السادس
الذي عقد عام 1993 في مدينة تورينو الإيطالية، عن قصة الإمبراطورية التي أقامها داود،
باعتبارها مقتبسة من تاريخ تحتمس الثالث، أول من مد حدوده بين النيل والفرات. وأوضحت
في التقرير الذي نشرته في العام نفسه في كتاب The House of the Messiah (آل المسيح)، الذي صدر في لندن،
ثم في «تاريخ اليهود»، الذي صدر في القاهرة، ان نتائج الكشوفات الأثرية تؤكد قيام الإمبراطورية
التي ذكرتها التوراة، لكن في زمن آخر غير زمن داود. فبينما خلت الطبقة الأرضية التي
ترجع لزمن داود منذ ثلاثة آلاف عام من دليل على قيام امبراطورية بين النيل والفرات،
أكدت الطبقة الأرضية وجود هذه الإمبراطورية في عصر تحتمس الثالث قبل ذلك بخمسة قرون.
ولو تفحصنا سيرة جميع ملوك العالم القديم، حتى عصر كورش الفارسي خلال القرن الخامس
قبل الميلاد، لوجدنا أن تحتمس الثالث ـ سادس ملوك الأسرة 18 المصرية ـ هو الملك الوحيد
الذي تمكن من مدّ حدوده بين النيل والفرات.
داود وتحتمس يتبين من تفاصيل القصة التوراتية
أن داود كان مشغولاً معظم حياته بخلافات داخل عائلته، أو فيما بين يهودا وبين قبائل
إسرائيل (أفرايم وبنيامين). وأن بني اسرائيل ـ الذين سكنوا الهضاب الفلسطينية ـ كانوا
ما زالوا في حالة شبه بدوية يعيشون في خيام وليست لهم مدن محصنة، كما أنهم لم يكونوا
في حالة هجوم بهدف توسيع رقعة كيانهم، إنما كانوا في حالة مستمرة من الدفاع عن أنفسهم
في مواجهة التهديد الفلسطيني المستمر. وبحسب هذه الرواية فإن داود بن يسي من قبيلة
يهودا، كان يرعى الأغنام ويحسن العزف على العود، جاء ليعيش عند الملك شاؤول، ثم خلفه
في قيادة قبائل بني إسرائيل. إلا أن الرواية التوراتية تتضمن معلومات متناقضة عن هذا
الملك. فبينما نجد داود ومعه جيش مكون من 600 راجل، يحاربون في صراع داخلي بين القبائل
الإسرائيلية أو مع الفلسطينيين، فجأة نجد تفاصيل معارك كبيرة تخوضها جيوش منظمة وآلاف
من العجلات الحربية، في مواقع محصنة عديدة من أرض الهلال الخصيب. فقد جاءت رواية سفر
صموئيل الثاني وسفر الملوك الأول ـ وهما رقم 10 و11 من العهد القديم ـ لتقول بأن الملك
داود أقام إمبراطورية تمتد ما بين النيل والفرات، أورثها لسليمان بعد موته. وتعب رجال
الحفريات في شق باطن الأرض الفلسطينية بمعاولهم، حوالي قرن ونصف القرن من الزمان، ولم
يتمكنوا من العثور على ذكر واحد ـ ولو مبتور ـ لأي من ملكي بني إسرائيل.
من الواضح أن بعض ما جاء في سفر صموئيل الثاني
لا ينتمي إلى سياق الرواية، إنما استعارها الكتبة من المصادر المصرية عند صياغة القصة
بشكلها الحالي، وليست لها علاقة تاريخية بحياة داود بني إسرائيل. فبدلا من القتال المستمر
بينه وبين الفلسطينيين في هضاب كنعان، نجد في الإصحاحين 8 و10 قصة حروب عظيمة منسوبة
إلى داود، ضد تحالف جبار من ملوك كنعان وآرام «سورية»، حيث يقوم داود بدور المهاجم
الذي يغزو كل تلك الممالك الواقعة بين نيل مصر وفرات ارض الرافدين. وعند دراسة هذه
الرواية نجدها مطابقة لما جاء في النصوص المصرية، في ما يتعلق بحروب تحتمس الثالث في
بلاد الشام. فمحور هذه الحروب هو المعركة الرئيسية التي دارت عند إحدى المدن المحصنة،
والتي تسميها القصة التوراتية «ربة». إذ تجمع عند هذه المدينة عدد من ملوك كنعان وآرام
«سورية»، تحت قيادة «هدد عزر» ملك احدى مدن شمال سورية «تسمى هنا صوبة»، وسار داود
بجيشه إلى أن اقترب من المدينة، فوجد أن القوات المتحالفة قسمت نفسها إلى قسمين، قسم
ظل داخل أسوار المدينة والقسم الآخر تجمع في الأرض المكشوفة على مقربة منها. فقسم جيشه
إلى قسمين، وعند تلاقي الجيوش في المعركة هرب جيش التحالف المتجمع خارج المدينة، وأسرع
الملوك بدخول المدينة المحصنة وغلق أبوابها. وهنا فرض داود الحصار على المدينة، وذهب
هو للإقامة في اورشليم إلى أن حان وقت سقوطها، فذهب لتسلمها. إلا أن ملك صوبة تمكن
من الهرب عائدا إلى مملكته في شمال سورية، فسار إليه داود «حين ذهب ليرد سلطته عند
نهر الفرات.. ونصب داود تذكارا (أقام لوحة)» عند نهر الفرات. «وقتل داود من أرام (سورية)
سبع مائة مركبة وأربعين فارسا». وعلى اثر هذه الانتصارات الهائلة، استسلم لداود كل
ملوك التحالف السوري الكنعاني وصاروا تابعين له: «ولما رأى جميع الملوك عبيد (هدد عزر)
أنهم انكسروا أمام اسرائيل صالحوا إسرائيل واستعبدوا لهم». وأقام داود الحاميات العسكرية
في مناطق عديدة من كنعان وسورية، حتى يضمن استمرار سيطرته عليها وصارت شعوب كل هذه
المناطق تدفع له الجزية. وفي استطاعتنا ملاحظة الفرق الكبير بين الملك الذي تتحدث عنه
هذه الرواية المستعارة، وبين داود الذي ترأس تحالفا قبائليا ولديه جيش لا يتجاوز
600 راجل، حيث: «ضرب داوود حداد عزر بن رحوب ملك صوبة (بشمال سورية) حين ذهب ليرد سلطته
عند نهر الفرات»، أي أن الملك كان قد ورث مملكة تمتد سلطتها إلى نهر الفرات وفقدها،
وهو عند خروجه لاسترجاعها قد هزم ملك شمال سورية.
وعلى الرغم من عدم وجود علاقة بين هذه المعارك
وما نعرفه عن داود بني إسرائيل، فهي تتفق تماماً مع أخبار حروب تحتمس الثالث، كما وردت
في المصادر التاريخية المصرية. كان تحتمس الأول قد استطاع الوصول عبر الفرات من قبل،
حيث أقام مسلة في جنوب آسيا الصغرى يحكي فيها أخبار انتصاراته، لكن سرعان ما ضاع النفوذ
المصري هناك خلال حكم حتشبسوت المسالم فعاد تحتمس الثالث بعد حوالي أربعين عاما لرد
حدوده عند نهر الفرات، حيث أقام لوحة إلى جانب لوحة جده. ولا تزال تفاصيل المعارك التي
استعارها الكهنة لقصة داود بني إسرائيل، مسجلة حتى أيامنا هذه على جدران معبد الكرنك
وفي سجلات حروب تحتمس الثالث. ونحن نجد هنا صدى لأهم معركة خاضها تحتمس الثالث ـ عام
1468ق. م ـ عندما تجمع 350 ملكاً بجيوشهم لمحاربته، عند حصن «مجيدو» بوسط كنعان، وصار
اسم هذه المدينة في اللغة، منذ ذلك الوقت هو «المجد»، تعبيرا عما حققه الملك المصري
في هذه المعركة من أعلى درجات الانتصار. ولا عجب في هذه الحالة لو وجدنا أن هذه المعركة
نفسها، هي التي اختار كتبة سفر صموئيل الثاني اقتباسها لصالح داود بني إسرائيل. كان
ملك «قادش» التي كانت تقع في منتصف الطريق بين دمشق وحمص في شمال سورية، تزعم تحالفا
من ملوك سورية وكنعان في حركة تمرد على السلطة المصرية. وخرج تحتمس الثالث بجيشه من
مدينة «زارو» الحربية عند القنطرة شرق وسار في «طريق حورس» بشمال سيناء متجهاً إلى
كنعان. ووصل الملك إلى مدينة غزة بعد عشرة أيام، وهناك احتفل بعيد جلوسه الثالث والعشرين.
وكانت المعلومات التي وصلت إلى القيادة المصرية تفيد بأن ملك قادش جمع عدداً كبيراً
من ملوك سورية وكنعان، عند مدينة «مجيدو» بوسط كنعان وهي أكبر مدينة محصنة في البلاد.
سار تحتمس بجيشه في «طريق البحر» حتى وصل عند سلسلة جبلية وعرة، كان لا بد من عبورها
للوصول إلى مجيدو التي تقع عند الجانب الآخر للجبال، وكانت هناك ثلاث طرق تؤدي إلى
المدينة، واحدة تقود إلى شمال غربي مجيدو والثانية إلى جنوبها الشرقي، أما الثالثة
والتي تقود مباشرة إلى جنوب المدينة فكانت ضيقة ووعرة. فاختار الملك أصعب الطرق الذي
يمر وسط الجبال، وفوجئ خصومه عندما ظهر الملك أمامهم على رأس جيشه، فأسرعوا بدخول المدينة
والاحتماء بها. وبعد حصار دام حوالي ستة أشهر، سقطت مجيدو أمام تحتمس، إلا أن زعيم
التمرد ملك قادش تمكن من الهرب. فسار تحتمس إلى قادش في شمال سورية، التي استولى عليها
قبل أن يعبر نهر الفرات ليقيم لوحته في جنوب بلاد الاناضول.
وكما هو واضح، فإن هذه الأحداث ليست لها علاقة
بقصة داود بني إسرائيل، وإنما تتفق مع أخبار حروب تحتمس الثالث كما وردت في المصادر
التاريخية المصرية. استعار كتبة قصة داود الرواية المتعلقة بتكوين تحتمس الثالث للإمبراطورية
المصرية بين النيل والفرات ـ قبل عصر داود بخمسة قرون ـ ونسبوها إلى ملكهم
No comments:
Post a Comment