محمد عجلان
الرجل الغامض القابع خلف نظارته السوداء، يجيد
الابتسام والإشارات المستترة، يبتسم بهدوء، لا يتكلم سوى كلمات معدودة في مناسبات متباعدة،
وكلها تدور في قالب عاطفي عن مصر التي ستصبح (أد الدنيا). لم يكن المصريون يعرفون عنه
شيئا تقريبا، إلا أنه كانت لديهم صورة ذهنية عن رجل المخابرات صنعتها مسلسلات تليفزيونية،
مع تضخيمات المصريين المعهودة، فأصبح الناس يُسقطون على الرجل صورا مستدعاة من ذاكرتهم
التليفزيونية، فحين يصمت يكون صمته حكمة، وحين يلمّح تكون إشاراته أقرب للأوامر الكونية
التي ستغير الخارطة الدولية، وحين يبتسم فإن ذلك يعني أن المستقبل مشرق لا محالة. لم
يجلس المصريون إلى أنفسهم كي يحكموا على الرجل بهدوء، فقط استدعوا الصور من الذاكرة
وألصقوها على حائط الرجل، وقالوا: كمل جميلك، وها هو يفعل.
وإذا كان هذا الحكم العاطفي من جانب شعب حول
مرشح رئاسي ينم عن ضعف الوعي السياسي، إلا أن ما زاد الطين بلة أنهم لم يكونوا متروكين
وعقولهم ضعيفة الوعي، فربما كانت المصلحة تساعدهم في إدراك الحقيقة بشكل أوضح، لكنهم
وقعوا تحت ضغط مرعب صنعته جماعة الإخوان بإرهابها بعد سقوط رجلهم في قصر الرئاسة، مما
جعل الشعب غير قادر على التفكير الهادئ، وغير مدرك للفارق في الدور والمرحلة، بين ما
قام به السيسي استجابة لمطالب ملايين المصريين في الشارع وهو على رأس الجيش، وبين أن
يكمل جميله ويصبح على رأس السلطة في مثل هذه المرحلة الحرجة، دون رؤية أو برنامج. أقول
إن الإخوان هم من دفعوا المصريين بكل عنف نحو الاختيار الأوحد الذي لا بديل له.
لم يعلن الرجل برنامجا انتخابيا، بل ظل صامتا
لشهور عديدة عن إعلان الترشح، وترك الساحة تغلي بالتوقعات، سوف يرشح نفسه، لن يرشح
نفسه، سوف يبقى وزيرا للدفاع، سوف يستقيل ويكتب مذكراته، وفى كل الحالات ظل الرجل صامتا،
بينما المصريون يرسمون صور البطولة على جدران قلوبهم. وهنا جاء دور إعلام المصالح،
والذي استهدف ترسيخ هذه الصورة الذهنية لدى المصريين، فالبلد تضيع ولا منقذ لها غير
السيسي، لا وقت للحديث عن الحريات أو المستقبل أو البرامج الانتخابية أو الانحيازات
العامة للرجل، فالمعركة الآن هي أن نحيا أو يهلكنا الطوفان. وكان الإعلام حين يقوم
بهذا الدور يدافع بالأساس عن مصالح أصحابه لا عن مصلحة المصريين ولا عن شخص السيسي،
فقد رأوا في الرجل خير ضامن لمصالحهم، فهو صاحب نظرية استدعاء الخير من داخل الأشرار
كما ورد على لسانه في أحد اللقاءات.
وربما كان تصور السيسي حين أعلن عن استدعائه
لجوانب الخير، التي لم نعرف لها سوابق لدى فاسدي نظام مبارك، أنه بعد أن يعلن ذلك بشكل
واضح وصريح سوف يشير لهم بطرف عينه اليسرى فيصبون خزائن أموالهم عند قدميه، فيقيم المشروعات
ويصنع نهضته الخاصة التي تخلد اسمه في سجلات التاريخ، إلا أنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك،
بل رجعوا بقوة إلى الساحة ليعلنوا عن حقهم في العودة من جديد،كأنه لا فساد وقع ولا
شعب انتهكت كرامته، وجرّفت كفاءاته، ونهبت خزائنه على مدى عقود طويلة، عادوا بالبراءة
ليعلنوا للجميع أنهم ما سرقوا وما نهبوا ولكن شُبّه للمصريين والتبست عليهم الرؤى.
وعندما نطق الرجل بعد طول صمت، لم نجد لديه
شيئا سوى أمنيات، هي أولى بمواطن بسيط من رأس سلطة جاءت بعد ثورتين في أقل من 3 سنوات.
لا رؤية لدى الرجل، ولا برنامج عمل واضح، والانحيازات حتى الآن هي أقرب للأغنياء لا
الفقراء، وكأن الثورة قامت لحماية أصحاب المصالح لا أصحاب المظالم. وبدأ سقف توقعات
المصريين يهبط، وبدأت الصورة الذهنية للرجل تهتز، اهتزت قليلا بعد أن تكلم، وأعتقد
أنها اهتزت بشدة بعد أن قيل أنه يفعل. مشروعات كبرى يُعلن عنها وأحلام كبيرة يطمح إليها،
لكن كما قال الأستاذ هيكل مؤخرا أن المشروعات شيء جيد، ولكنها بدون رؤية واضحة تتحرك
في سياقها لن تؤدي إلا إلى مزيد من التخبط.
أرجو ألا يطول انتظار المصريين كي تتجسد أحلامهم
واقعا، فالمقدمات تقول أن المعاناة لن تنتهي قريبا، وأن برنامج العمل غير جاهز، هذا
إن كان موجودا بالأساس، وأن الرؤية غائبة عن الرجل، فقد وجد نفسه بين عشية وضحاها على
رأس بلد يحلم بحاكم قوي يستعيد حقوقه الضائعة، بينما هو لا يجيد سوى الطبطبة على الأكتاف،
وليتها كانت أكتاف الفقراء بل أكتاف المتخمين بثروات المصريين، ولا نصيب للمصريين من
نعومة الرجل سوى كلمات تؤكد على الفعل، ولكن لا فعل حتى الآن. فلا وقت لمزيد من التسكين،
فآلام الجوع وقسوة الحاجة والشعور بالامتهان في الوطن لا يمكن أن تبقى كثيرا رهينة
التسكين، فإما علاج قوي عبر رؤية واضحة أو الكارثة التي لا يمكن توقع أبعادها ولا ملامحها.
No comments:
Post a Comment