يحلو
للكثيرين من أصحاب الأفكار السياسية في بلادنا صناعة معارك وهمية يستعيضون بها عن
قراءة الواقع وإدراكه، يستمتع هؤلاء بتحويل أي خلاف أو صراع بين دولة كبرى أو
مجموعة دول كبرى من جهة وبين دولة أصغر أو مجموعة دول من جهة أخري إلى (معركة
كرامة) باستخدام التعبيرات القومية أو إلى (معركة ضد الاستغلال ) باستخدام
التعبيرات اليسارية.
استفتاء
اليونان الأخير قد يكون خطوة فاصلة في اتجاه خروج اليونان من منطقة اليورو وقد لا
يكون، قد يعرض الاتحاد الأوروبي خططا بديلة وقد لايفعل، قد تولد الضغوط الاقتصادية
في اليونان موجة من المشاكل والإفلاسات في البنوك، و يؤدي هذا بدوره لتدخل
الأوروبيين وقد يحدث هذا ولا يتدخل الأوروبيون.
إذا عقدنا
مقارنات صغيرة بين اليونان وألمانيا فقد يضيء هذا لنا طريقا لإدراك أين توجد
المشكلة بعيدا عن التعبيرات الرومانسية التي لا تناسب الواقع الاقتصادي.
ينظر
اليونانيون ومعهم مجموعة من الرومانتيكيين العاطفيين إلى ألمانيا كممثل لقوة الشر
في هذا المشهد، ولكن دعنا نتأمل وضع
ألمانيا بعد عام 1945 لإدراك كيف تكون الأزمات وكيف تخرج الشعوب منها؟
يمكننا تلخيص وضعها السياسي كالآتي:
(1) بعد عام 1945 تم
احتلال كامل الأراضي الألمانية.
(2) نتيجة احتلال السوفييت لكل المنطقة فقد تم اقتطاع أجزاءً واسعة من شرق
ألمانيا وضمها لبولندا في تعويض لبولندا عن الأراضي التي احتلها الاتحاد السوفييتي
في شرق بولندا منذ عام 1939.
(3) تم تحويل إقليم تاريخي في ألمانيا هو بروسيا الشرقية وعاصمته
مدينة كونيجسبيرج وما حولها إلى منطقة
خاضعة للنفوذ الروسي، وتحول اسمها إلى كالينينجراد مع منح أجزائه الجنوبية لبولندا.
(4) تم ضم الألزاس واللورين إلى فرنسا، بالإضافة إلى تعديلات حدودية صغيرة
أخرى لمصلحة هولندا والدنمارك.
(5) تم تحويل منطقة سارلاند الصناعية في غرب ألمانيا إلى محمية فرنسية خارج
سلطة ألمانيا الغربية.
(6) تم تقسيم ما تبقى من ألمانيا إلى المنطقة الشرقية التابعة لنفوذ
السوفيييت، والتي ستصبح ألمانيا الشرقية والمنطقة الغربية التي ستصبح ألمانيا
الغربية، والتي تم تقسيمها لمناطق نفوذ بريطانية وأمريكية وفرنسية.
(7) تم تهجير غالبية الألمان والناطقين بالألمانية من شرق أوروبا و الذين
كانوا من سكان المناطق التي كانت ألمانية قبل الحرب، والذين يقدر عددهم على الأقل
بعشرة ملايين باتجاه بقية الأراضي الألمانية.
(8) مع نهاية الحرب تم استخدام الأسرى والمواطنين الألمان كعمال بالسخرة،
وخصوصا في المجالات الخطيرة مثل تطهير الألغام، حيث عانى مليونألماني في الاتحاد
السوفييتي لثماني سنوات لاحقة حتى عام 1953، وكذلك ثلاثة أرباع مليون أسير ألماني
في فرنسا و400 ألف أسير ألماني في
بريطانيا من هذه المعاملة حتى عام 1946 على الأقل.
(10) تم تفكيك الصناعة الألمانية، حيث تم نقل آلات ومعدات المصانع من
ألمانيا الشرقية والغربية على حد سواء وتسليمها للسوفييت أو لغيرهم في إطار دفع
تعويضات.
(11) تم نزع سلاح ألمانيا الشرقية والغربية.
(12) تم اغتصاب عدد كبير من النساء الألمانيات بنهاية الحرب كرد فعل من جنود
الحلفاء، وبالأخص الجنود السوفييت على ما ارتكبه الجنود الألمان سابقاً في أوروبا
الشرقية، وتقدر حالات الاغتصاب برقم كبير لا يقل عن مائة ألف على أقل تقدير.
(13) نتيجة لتخوف فرنسا من قدرة ما
تبقى من ألمانيا الغربية على منافستها
اقتصاديا، فقد تم وضع نظام لإدارة مناجم وصناعة الفحم والحديد في منطقة الرور
بألمانيا الغربية، وتم تحديد كميات ما يمكن للألمان استغلاله منها رغم كونها أراض
ألمانية.
إذن وفي ظل
هذا الوضع البائس كيف يمكنك تصور أنه بعد أقل من عشرين عاما من ذلك التاريخ كانت
ألمانيا الغربية هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة؟ ذلك هو ما
عرف بالمعجزة الألمانية، فقد تمكن الألمان في ألمانيا الغربية من تحويل أنفسهم مرة
أخرى عن طريق العمل إلى قوة اقتصادية كبرى، رغم مشاكل المُهجّرين والتعويضات
والتفكيك والإفلاس.
صحيح أنه تم
دعمهم بمشروع مارشال من الولايات المتحدة، ولكن في الواقع إنه بالمقارنة لم تزد
الأموال، التي تم تقديمها لألمانيا عن 5 % من إجمالي الناتج المحلي لألمانيا
الغربية عام 1950 في حين حصلت دولة كاليونان على ما يتجاوز 50 % من إجمالي ناتجها
المحلي، وبالمقارنة أيضا فإن ألمانيا الغربية حصلت على أقل مما حصلت عليه بريطانيا
أو فرنسا بكثير وبما يقارب ماحصلت عليه إيطاليا، ومع ذلك فإن ألمانيا الغربية نجحت
في تجاوز مشاكلها الاقتصادية بنجاح أكبر بكثير، بعد أن اقتنع الأمريكيون أن تفكيك
الصناعة الألمانية المكثف الذي تطالب به فرنسا بإصرار قد يقود إلى كارثة؛ لأنه
سيحتم عليهم إطعام الألمان الجوعى؛ مما
دفعهم لوقف هذه السياسة تدريجيا بين عامي 1949 و1951.
بل أنه
لاحقا ستستعيد ألمانيا الغربية إدارة منطقة (الرور) الغنية بمناجم الفحم والحديد
عام 1952 مقابل الاندماج في أول صيغة
للاتحاد الأوروبي، والتي سمحت بفتح سوق مع (فرنسا)، وستستعيد (سارلاند) عام 1957
مقابل السماح بالنقل النهري مع فرنسا وامتيازات أخرى لفرنسا، وستعود للتسلح وتنضم
للناتو عام 1955، بل وستصبح فرنسا التي كانت أكثر الدول تخوفا من عدوها التاريخي
في ألمانيا حليفا مقربا من فرنسا، بل وستصبح هي قاطرة الاتحاد الأوروبي ككل، وقد
تم ذلك أيضاً بالتزامن مع دفع التعويضات، ولاحقا ستبدأ ألمانيا الغربية منذ أواخر
الخمسينات وبفضل النجاحات الاقتصادية في التوسع في برامجها للرعاية الاجتماعية، والتي
كانت مهملة بشكل كبير لسنوات.
وستعود
ألمانيا الغربية مرة ثانية لتدفع لألمانيا الشرقية بعد توحيد ألمانيا عام 1990
فاتورة باهظة نتيجة للوحدة بين الاقتصاد الألماني الغربي القوي، وبين ألمانيا
الشرقية ذات الاقتصاد الشيوعي المفلس والضعيف.
وستعود مرة
ثالثة لتدفع بالأساس لمواطني دول جنوب القارة اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال
مبالغ كبيرة في إطار عملية إنقاذ اقتصاداتهم بعد عام 2008.
في المقابل
إذا نظرنا لأسباب مشكلة الديون اليونانية، فإننا سنجد أولاً مشكلة بيانات خاطئة
وعملية غش منظمة، فقد دأبت الحكومات اليونانية المتعاقبة منذ أواسط التسعينات على
تغذية شركائها الأوروبيين ببيانات خاطئة قبل وبعد استخدام العملة الموحدة (
اليورو) رسميا؛ لإيهامهم بأن وضعها الاقتصادي أفضل مما يمكنها من استخدام قواعد
ونظم الاتحاد للحصول على القروض باستمرار بضمان مركزها المالي المزعوم، وثانيا
مشكلة تهرب ضريبي، حيث يتهرب المواطنون
اليونانيون من دفع الضرائب، وهناك تقديرات بعشرات المليارات من اليورو على أساس
كونها حصيلة تهرب ضريبي، وثالثا مشكلة
الفساد فسعى الكثيرون للهروب من دفع الضرائب أو عموما للحصول على خدمات حكومية غير
مستحقة أو بمقابل أقل، ساهم في رفع معدلات الفساد الحكومي في اليونان التي تعتبر
من أكثر الدول في الاتحاد الأوروبي التي تعاني من الفساد، ورابعاً زيادة الإنفاق
الحكومي ذاته الناتج عن عدد كبير من موظفي الحكومة غير المنتجين، والذين يحصلون
على رواتب، وخامسا زيادة الإنفاق العسكري، فاليونان هي أكبر عضو أوروبي في الناتو
إنفاقا على التسلح كنسبة من اجمالي ناتجها القومي ، وسادسا اقتراض اليونان بشكل
واسع لتغطية نفقات أولمبياد أثينا بالذات في عام 2004، وهذه العوامل مجتمعة
وغيرها قادت دائماً إلى عجز دائم في
الموازنة اليونانية اعتادت الحكومة سده عبر الاقتراض باستمرار بضمان وضعها كعضو في
الاتحاد إلى أن ضربت الأزمة المالية الاقتصاد العالمي في 2008، وبعدها بدأت
الحقائق تتكشف، وبدأت محاولات الإنقاذ.
منذ ذلك
الوقت بدأ الأوروبيون واليونانيون معا بوضع خطط لإنقاذ اليونان من ديونها، تتضمن
إقراضها الأموال في مقابل القيام بإصلاحات تقلل الإنفاق الحكومي، وقد تم بالفعل
إقرار عدد من هذه الخطط والعمل عليها، والأرقام تؤكد أن وضع اليونان قبل شهور أفضل
مما كان قبل ثلاثة أعوام على سبيل المثال، المشكلة إذن أن اليونانيين لا يريدون
الدفع ولا يريدون الاستمرار في خطط التقشف هذه، ويفضلون أن يعقد معهم الأوروبيون
اتفاقات أفضل بكثير، أو أن يتنازلوا عن ديونهم، وإلا فالمقابل قد يكون الانسحاب
حتى من الاتحاد الأوروبي ككل.
في ظل هذا
المناخ تنتشر نظريات المؤامرة الكونية في اليونان، وعاد بعض الساسة ومنهم رئيس
الوزراء الحالي لمطالبة ألمانيا بدفع مبالغ كانت ألمانيا النازية حصلت عليها من
اليونان في الأربعينات، وكانت حكومة ألمانيا الغربية قد سددت تعويضات عنها في
الستينات، ولكن بعض اليونانيين يعتبرونها كانت مجرد دفعة تحت الحساب وليست تعويضا
كاملا، كما صعدت الأحزاب اليمينية والقومية المتشددة في اليونان في ذات الوقت الذي
صعد فيه اليسار الردايكالي إلى السلطة في يناير الماضي.
الملخص إذن
أن هناك فكرة رائجة لدى المتعاطفين مع
الموقف اليوناني هنا مفادها ولماذا يدفع جيل من اليونانيين ثمن خدمات استفاد بها
من سبقوه؟ ولماذا تدفع حكومة يونانية على أساس تعهدات لم توقع عليها؟ وكأن الأموال
المدفوعة ذهبت لبطن الحكومات السابقة وليس لتمويل موازنة الدولة اليونانية، أو
لماذا يتم الدفع أصلا لهؤلاء (المستغلين الرأسماليين) الذين يحاولون استغلال
اليونان؟ يحدث هذا في الوقت الذي يمكن للجميع التأكيد فيه أن الأزمة كلها من صناعة
الشعب اليوناني، وأنه لم يتم اضطهاده أو احتلال أراضيه أو تفكيك صناعاته أو وقف
السياحة في اليونان.. إلخ أو أية إجراءات استثنائية.
الخلاصة
التي نريد أن نقولها هنا إن ما ميز الألمان هي
ثلاثة أمور رئيسة: اعترافهم بالمسؤولية عن أخطائهم من جهة، واحترامهم لكافة
التزاماتهم بشجاعة من جهة ثانية، وعملهم بجدية تفوق كل أقرانهم رغم كل الصعاب من
جهة ثالثة، أما المساعدات الأجنبية فقد كان دورها محفزا ومساعدا، ولكنها لم تكن
الحل كله، أما الموقف اليوناني فهو في الواقع يفتقد لكل هذه العوامل، فلايوجد لا
اعتراف بالمسؤولية، ولا احترام للالتزامات ولا عمل بجدية وهناك رغبة دائمة في أن
تحل المساعدات المشكلة بالكامل أو على الأقل بنسبة كبيرة.
قد يحل
استعمال (الدراخما) من جديد وخفض قيمتها المشكلة اليونانية بشكل ما، ولكنه سيحل
المشكلة ظاهريا فقط دون علاج سبب التخلف الاقتصادي اليوناني الأساسي.
بعيدا عن
ألمانيا واليونان إذن فإن المشكلة المهمة هي
في كون المصريين يتحمسون للمهزلة اليونانية بأكثر من تحمسهم للمعجزة
الألمانية، بما يثبت أنهم لم يتم علاجهم من داء الفهلوة بعد.
No comments:
Post a Comment