Sunday, October 23, 2011

كان الفارق بين ما أراده الضباط الأحرار وما يريده المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

وجه الشبه الوحيد بين من تسلموا السلطة فى يوليو 1952 وما آلت إليه الأمور فى فبراير 2011، أن كليهما عسكرى، ولكن الفروق تبدو شاسعة عندما ننظر إلى ما قام به الضباط الأحرار فى الأشهر الأولى من حكمهم وما لم يقم به المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال الأشهر الثمانية الماضية
فمنذ اليوم الأول كانت خطواته واضحة وسريعة ومتلاحقة، فبعد أن تولى مقاليد الحكم قام بتحويل مصر من ملكية إلى جمهورية ليحقق لها الاستقلال الكامل عن الاستعمار البريطانى ويواجه سيطرة رأس المال والإقطاع وليحاول تلبية طموحات وآمال المصريين الذين لم يكونوا فى انتظاره أصلا ولكنه فاجأهم يوم 23 يوليو 1952
فى الأسابيع الأولى من تولى الضباط الأحرار السلطة كانت قضية الضريبة التصاعدية وتحديد الملكية الزراعية مطروحة للمناقشة، وأقر بالفعل تحديد الملكية الزراعية بمئتى فدان، رغم المعارضة الشديدة، التى وصلت للمقاومة المسلحة من جانب كبار الملاك، وبموجب ذلك تمت مصادرة أراضى 111 من كبار الملاك من الملك وعائلته. وتلاه قرار بحل الأوقاف وتوزيعها على المـســتـحقيــــن، وتطبيق قرارات تحديد الملكية عليها، فى ما عدا الأوقاف الخيرية. وسبق هذا إلغاء الرتب والألقاب، وهو الإجراء الذى حمل إشارة إلغاء التمييز والتفاوت، حتى إن لم يكن له مردود اقتصادى مباشر. الموازنة التى صدرت فى أغسطس 52 تضمنت تخفيض نفقات الديوان الملكى من 800 إلى 500 ألف جنيه، إضافة إلى تخفيضات أخرى فى المصروفات السيادية. وقبل انتهاء سبتمبر كان مشروع إقامة مجمع للحديد والصلب مطروحا أمام السلطة، لتدخل به مصر عصر الصناعات الثقيلة، وفى مطلع أكتوبر تشكل المجلس الدائم للإنتاج لتطوير الصناعة. وبعد مرور ثلاثة أشهر على سلطتهم كان الضباط الأحرار يضمون قصر الزعفران الملكى لجامعة عين شمس، كما سبق وضم المقر الصيفى للحكومة بالإسكندرية لجامعة الإسكندرية، ضمن قصور أخرى خصصت للمنفعة العامة. كما تقرر تخصيص سيارة شعبية واحدة لكل وزير، وبيع السيارات الفاخرة التى تملكها الدولة بالمزاد. فى الفترة نفسها صدرت ثلاثة قوانين عمالية متعلقة بعقد العمل، والنقابات، والمنازعات العمالية. وكان قرار بوضع حد أدنى لأجر العامل الزراعى قد صدر بقيمة 18 قرشا يوميا، وهو ما يساوى، بحسب دراسة للخبير الاقتصادى أحمد النجار، 2000 جنيه شهريا فى هذه الأيام، وتشكيل لجنة لبناء 750 ألف منزل للفلاحين. وبدأت فى الفترة نفسها دراسة إنشاء السد العالى لتطوير الزراعة، وتوليد الكهرباء. هذه الإجراءات وغيرها مما أقدم عليه الضباط الأحرار منذ الأيام الأولى لتوليهم الحكم، لم تكن لتحدث تغييرات فورية فى حياة المصريين، التى تدهورت لعقود، ولكنها كانت رسالة قوية وواضحة للمجتمع المصرى، تعنى أن الذين يجلسون فى السلطة يعرفون ما يعانيه الشعب، ويعملون على رفع المعاناة. الرسالة التى وصلت من المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم تكن بالقوة نفسها، ولا حتى المضمون نفسه. فرسالة السلطة الجديدة فى مصر كانت الاستمرار فى سياسات السوق نفسها، التى انتهجها النظام المخلوع، ورفض الحديث عن إعادة تأميم الشركات، التى بيعت بصفقات فاسدة، ورفض تطبيق الضرائب التصاعدية على الدخل. وعندما وضعت موازنة تضمنت ضريبة على الأرباح الموزعة والإدماج والاستحواذ، تراجع عنها سريعا تحت ضغط رجال الأعمال، ثم وضعت موازنة تقشفية يدفع فيها الفقراء ثمن عجز الموازنة الذى لم يصنعوه.

لا يخلو التاريخ من مفارقات ذات معنى عميق. أسطول «أميال من الابتسامات» الذى يحمل مواد إغاثة لغزة المحاصرة والذى تعذر وصوله لمنع اليونان مروره يذكرنا بما حدث عقب 23 يوليو. عندما طاف قطار الرحمة محافظات مصر لجمع الإغاثة لفلسطين ووقف رئيس الوزراء محمد نجيب بنفسه فى وداع القطار الذى انطلق من القاهرة لإغاثة الفلسطينيين. كانت القواعد العسكرية البريطانية لا تزال قائمة فى مدن القناة بينما كانت خيارات الضباط الأحرار واضحة كما عبروا عنها فى أهدافهم «القضاء على الاستعمار وأعوانه». لذا كان من الوارد أن تشن مصر هجوما شديدا على ألمانيا بسبب موافقتها على منح تعويضات لإسرائيل واعتبرت ذلك عملا عدائيا. الفارق كبير بين هذا الموقف وقضية الغاز المصرى الذى يصدر لإسرائيل، وجل ما يمكن الوصول إليه بعد الثورة هو إعادة تسعيره إن أمكن لا وقفه أو حتى استعادة فروق الأسعار. المفارقات لا تنتهى، فالسودان الذى انفصل جنوبه قبل أيام كان من أولى القضايا التى تصدى لها الضباط الأحرار عقب يوليو ودخلوا فى مفاوضات مطولة هدفت إلى استقلاله وحماية وحدته. وفى التاسع والعشرين من أكتوبر 1952 تم فى القاهرة التوقيع على الاتفاق المصرى السودانى الذى تضمن الحكم الذاتى للسودان حتى تقرير المصير وتشكيل لجنة للسودنة. يبدو أن مصر المستعمرة ساعتها كان بوسعها أن تقوم بدور أكبر من اليوم حيث يجرى تقسيم السودان. على كل حال لم تبق مصر مستعمرة كثيرا عقب 23 يوليو فقد كانت قضية الجلاء من أولى القضايا التى طرحها الضباط الأحرار لا على مائدة التفاوض كما جرى فى أعقاب يوليو ولكن أيضا عبر دعم الكفاح المسلح فى مدن القناة ضد القواعد البريطانية. وهو ما يجتهد الضباط الأحرار فى إخفائه، فعبد الناصر تحدث صراحة عن «شن حرب عصابات ضد الإنجليز» وعندما سئل عن جدية حديثه قال: «إذا لم تجل قواتهم عن مصر فالتصريح قائم اليوم وفى المستقبل أيضا». ما قام به عبد اللطيف بغدادى فى عام 1953 عندما أنذر السفارة البريطانية بإخلاء طريق الكورنيش وأعطاها مهلة 48 ساعة، وعندما لم تنفذ أمر اللوادر باجتياح مبانى السفارة لفتح طريق الكورنيش بالقوة مسددا الضربة التى حطمت فك الأسد البريطانى لم يكن مفاجأة بالمرة، فما قام به الضباط الأحرار منذ اللحظة الأولى كان يؤكد أن الاستقلال والكرامة الوطنية فى صدارة مهامهم. ولم يعن ذلك بالطبع أنهم مقدمون على إعلان الحرب أو على إلغاء الاتفاقيات المبرمة أو القيام بأى مغامرة من أى نوع، بل كان يعنى أن الإرادة الشعبية التى عبرت عن عدائها ورفضها الهيمنة الاستعمارية والتبعية طوال عقود ستكون الموجه للقرار السياسى لا الاتفاقيات والمعاهدات التى اضطرت أى حكومة أو نظام التوقيعها فى وقت من الأوقات. لم يتم جلاء القوات البريطانية عن مدن القناة فى يوم وليلة ولكن ما استطاع الضباط الأحرار القيام به منذ اليوم الأول أن يبدؤوا طريق التحرر من التبعية والاستعمار ويعبروا عن موقفهم بوضوح حشد خلفهم تأييد الشعب. ما أعلن عقب تنحى مبارك كان مختلفا «مصر ملتزمة بجميع المعاهدات والاتفاقيات التى وقعت عليها». الرسالة واضحة لا تغيير فى السياسة الخارجية فاتفاقيات كامب ديفيد والكويز وتصدير الغاز محل التزام نظام ما بعد مبارك. الحقيقة أن الإجابة جاءت بلا سؤال، فقد كان ذلك تطوعا من طرف واحد. فى حين أن الحديث عن استقلال القرار الوطنى والحفاظ على السيادة وعدم الخضوع لأى ضغوط أو توجيهات خارجية وتفضيل إرادة الشعب ما كان ليعنى -إن قيل- إعلان حرب على أى طرف أو خرقا لأى اتفاق أو معاهدة. ولكن كالعادة كان الفارق بين ما أراده الضباط الأحرار وما يريده المجلس الأعلى.

No comments: