وترصد الدراسه ما قاله جورج فوشيه فى كتابه "عبد
الناصر وصحبه"، من إن قوة الإيمان عند ناصر ترجع للفترة التى عاشها وهو طفل
مع عمه فى القاهرة حيث التحق بمدرسة النحاسين الابتدائية التى تقع أمام مقابر
سلاطين المماليك المجاورة لحى الحسين وخان الخليلى وملاصقة للأزهر الشريف، ويقول
فوشيه " إن الجو فى هذا الحى الدينى من مساجد ومشايخ وروائح البخور قد أثر فى
شخصية الرئيس وتوج إيمانه بالدين وقيمه الروحية والأخلاقية ومبادئه النضالية.
" كان جمال عبد الناصر فى ذلك
أيضا يتسق تماما مع طبيعة المجتمع المصرى والعربى فى تدينه القوى، وإن كان دون
تزمت ودون مظهرية مبالغ فيها لأن المبالغة فى هذه الحالة كثيرا ما تعطى انطباعا
معاكسا لدى الجماهير المصرية بالذات. إن نجاح الصورة الجماهيرية للزعيم السياسى
يجب أن تكون فى مجموع صفاتها معبرة عن السواد الأعظم من الشعب حتى يستطيع أن يرتبط
بها أكبر عدد من الناس ويجد فيه انعكاسا لأوضاعه الخاصة. فالزعيم الذى تشعر
الجماهير بأنه بعيد عنها، أو ينتمى لطبقة مميزة لا تمثل السواد الأعظم منه قد تعجب
به وقد تحترمه إذا كان فيه من صفاته ما يجعله أهلا لذلك، ولكنها يصعب أن تجد فيه
نفسها.
جمال عبد الناصر شارك الغالبية العظمى من الشعب المصرى
والعربى وجدانه، فقد كان أول مصرى يحكم البلاد منذ آلاف السنين، ولأنه جاء من بين
عامة هذا الشعب فقد ظل ولاؤه لهم طوال حياته ولم يحاول أن يستخدم منصبه وجاهه أو
سلطته فى محاولة للتشبه بطبقة أخرى غير تلك التى جاء منها. وربما كانت هذه هى أكثر
جوانب صورة عبد الناصر الجماهيرية التى أدخلته فى قلوب الملايين من مشرق الوطن
العربى إلى مغربه، ولم تستطع المحاولات المستميتة أن تقتلعه منها، وقد كان الابن
البار للغالبية العظمى من هذا الشعب.
وعندما وضع جمال عبد الناصر مبادئ الاشتراكية كان يعنى به
بالدرجة الأولى الكفاية فى الانتاج والعدالة فى التوزيع بمعنى ان تنتج مصر ما
تحتاجه من أجل كفاية حاجة الغالبية العظمى الفقيرة من الشعب من غذاء وكساء وتعليم
وصحة وحياة مستقرة كريمة وتستفيد الغالبية العظمى الفقيرة من هذه السياسة او من
هذا المنهج فى الحياة. المظهر والحياة المتواضعة البسيطة إن أول انطباع لصورة جمال
عبد الناصر هى ذلك المظهر البسيط.. ملبس عادى من بدلة كلاسيكية وكرافتة ذات تخطيط
مائل من اليسار لليمين والحذاء الأسود، هذا إذا كان فى مناسبة رسمية، أما إذا كان
فى المنزل أو فى أوقات غير رسمية فإن القميص والبنطلون والحذاء الخفيف هو اللبس
الغالب.
ومنذ 1954 خلع الرئيس جمال عبد الناصر الزى العسكرى ولم
يضعه إلا مرة واحدة ولمدة ساعتين فقط أثناء زيارتنا ليوغوسلافيا فى يوليو1956 وكان
ذلك لتفادى لبس الاسموكنج والفراك. ولم ير أحد أثناء حياة جمال عبد الناصر صورة
لرئيس الجمهورية فى الحمام او وهو نائم أو وهو بغير ملابسه وحتى الصور غير الرسمية
فهى قليلة جدا وربما كان أشهرها وهو يلعب الشطرنج وهى وإن كانت صورة غير رسمية إلا
أنها تدفعنا للتفكير فى صفات معينة ابرزها الذكاء وحسن التدبير والصبر والشجاعة
والحكمة.
والتزام جمال عبد الناصر بالبساطة يتمثل فى أسلوب معيشته
الواضح فمثلا أكلته المفضلة كانت قطعة من الجبن الأبيض والخيار والطماطم وفى بعض
الأحيان بيضة مسلوقة، أما غداؤه فلم يتعد الأرز والخضار وقطعة اللحم أو قطعة السمك
مما كان يشكل بعض العبء على من حوله. كان يتعمد تناول طعامه مع قرينته والأسرة
يوميا حوالى الثالثة من بعد الظهر يوميا ما لم تكن هناك ظروف قاهرة طارئة تحول دون
ذلك، حيث كانت فرصة لتبادل معرفة أحوال الأبناء فى الدراسة ومشاكلهم وطلباتهم أو
الاحتفال بأعياد الميلاد فى أبسط مما يتصوره الانسان.
وفى المساء وبعد انتهاء المقابلات والاجتماعات والرسميات
يتوجه الرئيس والسيدة قرينته وفى بعض الأحيان من الأبناء من أنهى واجباته إلى إحدى
قاعات المنزل حيث تدور عجلة آلة السينما بواسطة عم إسماعيل ويشاهد الحضور فيلما أو
اثنين حسبما تسمح الظروف ولم يخل هذا أيضا من ازعاجات يقوم بها سامى شرف ليدخل
القاعة على ضوء بطارية ليعرض أمراً عاجلاً أو مهماً على الرئيس.
كانت هذه هى المتعة الوحيدة التى يمارسها جمال عبد الناصر
مع ماتش تنس لو سمح الوقت فى ملعب داخل منشية البكرى. جان لا كوتير يقول فى كتابه
"ناصر": "إن منزل الرئيس ناصر فى منشية البكرى ظل إلى النهاية
يعتبر منزلا عاديا لا تميزه أى مظاهر للفخامة التى كانت تتسم بها الكثير من
المنازل الأخرى بمصر الجديدة والتى كان يعيش بها بعض المواطنين".
ويقول روبرت سان جون فى وصفه للبيت الذى كثيرا ما استقبله
فيه الرئيس جمال عبد الناصر : " يعيش الرئيس ناصر هو وأسرته فى منزل بمنشية
البكرى لا تحيط به أى مظاهر خاصة تقريبا.. ولا يزال الشطرنج هو لعبته الداخلية
المفضلة، وقد علمه لابنتيه الكبيرتين وابنه الأكبر خالد، لكنه وجد أن مشاهدة
الأفلام تريح أعصابه أكثر من أى شيء آخر، وحتى قيام الثورة كان يأخذ زوجته إلى
السينما مرة أو مرتين فى الأسبوع.. وفى يوم الجمعة لا يذهب أولاد ناصر إلى المدرسة
ولذلك فيمكنهم ان يسهروا ساعتين فى ليلة الخميس لكى يشاهدوا أحد الأفلام مع
والدهم. وجرت عادة العائلة على أن يسمح لهم باختيار الأفلام التى يريدونها، لكن
والدهم يقول : إن ذوقهم لا يماثل ذوقى فهم يحبون أفلاما أعنف من الأفلام التى
أحبها وخصوصا أفلام الحرب، ولذا فبعد أن يذهبوا إلى نومهم فإننى عادة أضع الفيلم
الذى أريده.
وهو يهتم كثيرا بالملابس، وحتى أيام كان بالجيش كان يلبس
الملابس المدنية بقدر استطاعته ولكن سرعان ما يكتشف من يعرفونه ــ إنه لا يملك
دولابا ممتلئا بالملابس : " لقد جرت سياستى دائما على أن أشترى بذلة جديدة
يفصلها لى ترزى بالقاهرة كل عام ولكننى أغفلت عام 1955 فلم أشتر فيه شيئا".
ونقطة الضعف عنده هى حبه لاقتناء أربطة العنق.. ورباط العنق المثالى بالنسبة له
يجب أن يكون به خطوط واسعة ذات ألوان مختلفة ويجب أن يكون تجاه هذه الخطوط فى
المرآة من الشمال إلى اليمين.. وقد جاءته هدايا تتراوح ما بين طائرات يبلغ ثمنها
نصف المليون جنيه وكتب موقعة بأسماء مؤلفيها وقد وزعها كلها أو سلمها للدولة لكنه
يحتفظ بالهدية إذا كانت رباط عنق مخططا فى اتجاه اليمين. وهو لا يملك ملابس للسهرة
لأنه يشعر أن مثل هذه الملابس لا تتناسب مع مصر الحديثة.
" كان من الافلام التى كثيرا
مايشاهدها الرئيس جمال عبد الناصر هى تلك التى تتعاطف مع الجماهير الفقيرة
والغلابة وتلك التى تمس العواطف ولطالما شاهد فيلم " "فيفا زاباتا
" ويحكى عن الاقطاع ومحاربته فى إحدى بلدان امريكا اللاتينية، وفيلم " IT IS A WONDERFUL LIFE " لجيمس
ستيوارت عن الترابط العائلى وكيف تعالج مشاكل الأسرة. عزوفه عن العنف من الصفات
التى يتصف بها الشعب المصرى بوجه عام والتى طالما كانت من مقومات شخصيته القومية
منذ أيام الفراعنة هو عزوفه الفطرى عن استخدام العنف.
وقد كانت هذه الصفة التى جعلت من ثورة عبد الناصر "
ثورة بيضاء " بعكس جميع الثورات الأخرى من الثورة الفرنسية إلى الثورة
البلشفية هى احدى أهم سمات الصورة الجماهيرية لجمال عبد الناصر، وفى ذلك كان
السواد الأعظم من الشعب المصرى يجد نفسه فيه. وهنا أيضا نجد أن جمال عبد الناصر
كان يمثل نموذجا فريدا لزعيم يأتى بثورة تطيح بالنظام القديم وتعادى الاستعمار
والتبعية فى الخارج والاستغلال والرأسمالية فى الداخل دون أن يلجأ لاستخدام العنف
كوسيلة لإحداث التغييرات الجذرية التى كان يسعى لتحقيقها.
لقد كانت تلك الصفة فى شخصيته مثار اهتمام عدد كبير من
الكتاب الغربيين والشرقيين على حد سواء كالذين اقترنت الثورة فى تاريخهم الوطنى
بالعنف والدماء، ومن بين هؤلاء الكاتب البريطانى ديزموند ستيوارت الذى نشر فى
كتابه "مصر الفتية" young egypt حديثا أجراه مع الرئيس جمال عبد الناصر وسأله فيه عن الشخص الذى حاز
إعجابه من بين قادة الثورة الفرنسية : دانتون مثلا أم روبسبيير؟، فقال له عبد
الناصر على الفور : لا أحد فى الحقيقة، لقد أعجبت بفولتير لأنه كان رجلا هادئا ولم
يكن قاسيا، أما الباقون فقد كانوا دمويين للغاية، فقد قتل كل منهم الآخر، وماتوا
جميعا عن طريق العنف".
وشرح الرئيس جمال عبد الناصر للكاتب البريطانى كيف أنه
تعلم من رائعة تشارلز ديكنز "قصة مدينتين" عن الثورة الفرنسية: أنه إذا
بدأت الثورة بإراقة الدماء فلن تتوقف عن ذلك وسيقلدها الآخرون.. " ويقول
ستيوارت فى نفس الحديث: "إنه لم يعجب قط بمؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك
فقط لأنه كان عنيفا وقاسى القلب. وقد كان هذا هو سبب رفض عبد الناصر الموافقة على
إعدام الملك المخلوع فاروق. وترجع كراهية عبد الناصر للعنف السياسى إلى أحاسيس
متأصلة فيه كما هى فى الشعب المصرى ذاته، وإن كان هو لم يعرف ذلك فى بداية حياته
كما يتضح من محاولته الوحيدة مع الاغتيال السياسى.
No comments:
Post a Comment